| جورج علم |
تبعثر على البيدر الأوكراني 76.8 مليار دولار أنفقتها الولايات المتحدة لمواجهة التمدد الروسي. ووضعت على البيدر الإسرائيلي رزمة بـ 14 مليار دولار “للدفاع عن النفس في وجه حماس”.
الأرقام هنا مخيفة، ولكن أقل رعباً من تلك المتداولة في غزّة، والتي تؤرخ أعداد الأطفال ضحايا القنابل الإسرائيليّة ـ الأميركيّة من وزن الـ1000 كيلوغرام من المتفجرات!
لغة الأرقام متداولة حاليّاً في الشرق الأوسط، كما هي متداولة في الولايات المتحدة، حيث يناقش الكونغرس مشروع دعم بقيمة 105 مليار دولار قرّر الرئيس جو بايدن تقديمها لأوكرانيا و”إسرائيل”. ويستنتج من مجريات النقاش أن الجمهوريّين يتخوفون من الإنفاق على جبهتين بدلاً من واحدة، خصوصاً أن جبل المليارات لم يحدث تحولاً في الميزان العسكري لمصلحة كييف، بل حافظ لغاية الآن على نوع من التوازن، وخفّف نسبيّاً من غرق أوروبا في المستنقع الروسي الذي استحدثه الرئيس فلاديمير بوتين في أوكرانيا.
ويتخذ النقاش طابع المحاسبة على خلفيّة الانتخابات الرئاسيّة، وقد منّن عدد من النواب الجمهورييّن زملاءهم الديمقراطيّين، بأنهم لم يذهبوا إلى إجراءات من شأنها أن تحدث إغلاقاً حكوميّاً، وهذا ما كان يتخوّف منه الرئيس بايدن، لكنهم لن يوافقوا على سياسة الإنفاق من دون مساءلة، لأن المليارات التي يتبرع بها إنما يوظّفها في حملته الإنتخابيّة، “إنه يخوض الإنتخابات الرئاسيّة على جبهتين: الأوكرانيّة. والآن، الإسرائيليّة”.
وتبدو الثانية مكلفة في ظل فيض الإستفهامات، والتساؤلات. ما هي الكلفة التي رصدتها وزارة الدفاع لنقل البوارج وحاملات الطائرات من الأصقاع البعيدة إلى المتوسط؟ كم تبلغ نفقة الدعم اللامحدود لـ”إسرائيل”؟ وهل الـ14 مليار تكفي، أم هي دفعة أولى على الحساب؟ وهل سيتمكن المحور الأميركي ـ الإسرائيلي من مواجهة محور الممانعة وتحقيق بنك الأهداف؟
واستدعى طابع المحاسبة هرولة وزير الخارجية أنتوني بلينكن إلى المنطقة من جديد بعد أن كان قد غادرها قبل أسبوع. لن يأتي ليؤنب “إسرائيل” على المجازر التي ارتكبتها في مخيّم جباليا، ولا ليحسابها على القنابل التدميريّة من زنة الطن الواحد التي استخدمتها ضد الأطفال والنساء، بل ليعيد النظر في السياسة المتبعة والتي أدت إلى فتح الأبواب أمام تحالفات استراتيجيّة بدأت بشائرها تلوح في الأفق، مع إلغاء الرئيس التركي رجب الطيّب أردوغان زيارة كانت مرتقبة إلى كيان الاحتلال الإسرائيلي، وانتقاد حكومة الاحتلال على جرائمها في غزّة، واستدعاء تل أبيب طاقمها الدبلوماسي في أنقرة، والبيان المشترك التركي ـ الإيراني الذي صدر عقب المحادثات التي أجراها وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان في العاصمة التركيّة.
شكّل الموقف التركي المستجد جملة إعتراضية كبرى على بنك الأهداف الأميركي ـ الإسرائيلي في الشرق الأوسط. وهناك مؤشرات ثلاثة دفعت بالوزير بلينكن تسريع الخطى إلى المنطقة:
الأول: إن محور الممانعة لم يعد يقتصر على إيران، وعواصم عربية أربع، بل بدأ يتمدد ليشمل تركيا بعد البيان التركي ـ الإيراني، والصين صاحبة المصالح الإستراتيجيّة في الخليج، والمنطقة العربيّة، وروسيا التي تبنّت مواقف واضحة في مجلس الأمن الدولي وخارجه، متعاطفة مع سكان غزّة، مؤيدة لحل الدولتين، منتقدة للمجازر الإسرائيليّة. يحاول بلينكن من خلال زيارته إلى أنقرة أن يخفّف من وقع الاندفاعة الأردوغانيّة، ويبقي على شعرة معاوية ما بين أنقرة وتل ابيب.
الثاني: إن المملكة العربيّة السعوديّة، ومعها دولة الإمارات، وبعض دول مجلس التعاون الخليجي، قد توصلت إلى قناعة نتيجة الاتصالات المكثّفة مع عواصم دول القرار، مفادها أن واحداً من بنك الأهداف الأميركي ـ الإسرائيلي وضع حدّ للفورة الإقتصاديّة الإنمائيّة التحديثيّة في الخليج، والحدّ من “الرؤى المستقبليّة” الطموحة التي هي قيد الإنجاز. وأن واشنطن بالتنسيق والتعاون مع تل أبيب، تطمحان إما للدخول في شراكة ملزمة، أو جعل هذه ” الفورة” تحت سقوف محكمة تمليها لغة المصالح.
الثالث: إن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لم يذهب في مواقفه بعيداً إلى حيث ذهب الرئيس التركي، إلاّ أن المواقف الصادرة عن الرياض حيال ما يجري في غزّة، متطابقة إلى حدّ بعيد مع مواقف أنقرة حيال القضيّة الفلسطينيّة، لكن مع تمايز في الأسلوب، والدليل أن الرياض لم تغلق باب التشاور والتنسيق مع الولايات المتحدة، رغم الدعم اللا مسبوق الذي تقدمه لـ”إسرائيل”، في حين أن أنقرة كانت تتهم الأميركي بالمباشر، وتحمّله المسؤوليّة المعنويّة عن المجازر الإسرائيليّة بحق أطفال غزّة. ولم تقطع الرياض خطوط التواصل مع إيران، لكنّها على طرفي نقيض معها. إيران تدعم “حماس”. الرياض لم تفعل. إيران برّرت عمليّة “طوفان الأقصى” ضد “إسرائيل”. الرياض دانت قتل المدنييّن أيّاً كانت هويتهم السياسيّة. إيران أوفدت وزير خارجيتها إلى أنقرة للبحث عن مواجهة مشتركة لما يجري، فيما أرسلت الرياض وزير دفاعها إلى واشنطن للتشاور حول آفاق ما يجري، وأبعاده. إيران تسعى لتوسيع هامش محور الممانعة استعدادا لمواجهة محتملة. الرياض تسعى إلى منع القضيّة الفلسطينية من الإنزلاق نحو صراع المحاور، وتريد أن تبقى في الحضن العربي وتحت المظلة العربيّة، ولذلك دعت إلى استضافة قمة عربيّة طارئة في الحادي عشر من الجاري، بهدف الاهتداء إلى خريطة طريق من دعائمها التأكيد على المبادرة العربية للسلام التي أقرتها قمة بيروت في العام 2002، والتشديد على حلّ الدولتين…