/ جوني منير /
لا شيء يسمح بوصفه بالجديد الجدي حول الازمة الرئاسية اللبنانية يمكن البناء عليه للحديث عن خرق قريب. لذلك انصرفت الاطراف المختلفة الى استعادة خطابها الشعبوي القديم والسعي في الوقت نفسه الى محاولة إضعاف حظوظ اسماء مطروحة بجدية من خلال الاستهداف الاعلامي، تماماً كما يفعل النائب جبران باسيل مع قائد الجيش العماد جوزف عون.
وتراجع الطروحات الجدية حول ايجاد مخارج للاستحقاق الرئاسي، لا يعود فقط الى الصدمة الفرنسية بعد الفشل الذي منيت بها مبادرتها والتي واكبها صراع الاجنحة الذي انتهى الى تغليب وتبني الرؤيا المشتركة السعودية-الفرنسية، ولا الى الحركة القطرية التي بقيت تحت سقف منخفض ومن محتوى فعلي، بل لأن التشابكات الاقليمية عادت لتظهر بقوة. ولكن هذه التعقيدات المستجدة غير قادرة على اعادة عقارب الساعة الى الوراء، وانما هي تهدف للضغط أملاً في تعزيز المواقع والأوراق، ذلك أن الافق فتح أمام التسويات العريضة والصفقات الكبرى كما هو ظاهر بوضوح.
ومن المفترض أن يصل وزير الخارجية الأميركي انطوني بلينكن الى السعودية واسرائيل في الثلث الاخير من هذا الشهر، لاستكمال آخر الترتيبات حيال خطوة التطبيع بين الرياض وتل أبيب. وأصبح ثابتاً أن النقطة الأهم التي تركز عليها السعودية تتعلق بضمان أمنها من خلال اتفاقية دفاع مشترك بينها وبين الولايات المتحده الاميركية. ذلك انّ استهداف الصواريخ الحوثية والايرانية للعمق الامني السعودي وصولاً الى مقر العملاق النفطي أرامكو، حفرَ عميقاً في ذهن التفكير السعودي.
ولا يحتاج الأمر للكثير من التحليل للاستنتاج بأن اتفاقية الدفاع الجاري بحثها، موجهة بشكل خاص بوجه ايران والقوى التي تدور في فلكها.
لذلك سعت ايران الى ارسال اشارات غاضبة تراوحت بين العسكرية كمثل الهجوم الحوثي داخل الاراضي السعودية ضد قوة عسكرية بحرينية واعادة تحريك بعض الجبهات في اليمن، وبين المعنوية كمثل ما واكبَ مباراة كرة القدم في طهران بين فريق سباهان الايراني واتحاد جدة السعودي من خلال وضع مجسم لقاسم سليماني وما يمثله من حساسية كبيرة للسعوديين اضافة الى شعائر سياسية، ما أنتج انسحاب الفريق السعودي والغاء المباراة.
البعض وضع هذه الاشارات في اطار الاختبارات الغاضبة لا تنفيذ انعطافة كبرى بهدف العودة الى الوضع السابق، بدليل المواقف الايرانية التي تلت. فمثلاً، اجرى وزير الخارجية الايراني حسين عبد الامير اللهيان اتصالا بنظيره السعودي اعلن فيه رفض بلاده استعمال الرياضة كأداة سياسية، مؤكدا أن هنالك اتفاقاً مع السعودية لاعادة تلك المباراة في موعد لاحق.
وهو ما يعني بأن للرسائل الاعتراضية حدوداً مرسومة لن يجري تجاوزها، وهي اضافة الى انها تظهر اعتراضا ايرانيا حيال الاتفاقية السعودية الجديدة، فإنّ طهران ستعمل على استثمارها ايضا في الداخل الفلسطيني، وبالتالي توسيع مساحة تأثيرها فلسطينيا في المرحلة اللاحقة. ومن هذه الزاوية لا بد من قراءة متأنية للأحداث التي طالت مخيم عين الحلوة والتي ستطاله مستقبلا اضافة الى مخيمات أخرى ربما.
واستتباعاً، فإنّ هذا الشغب الذي ادى الى تجميد الحركة حول الأزمة الرئاسية في لبنان ولو مرحلياً، لن يؤدي الى اعادة اقفال الافق الاقليمي. فالتحولات الهائلة التي تحصل تَشي بتفاهمات أكبر من الجميع. فثمة مصالح ضخمة لا قدرة للقوى الاقليمية مهما تعاظم حجمها على تعديل مسارها.
فالشعب الارمني الذي دفع مرة جديدة فاتورة الصفقات الدولية، كان ضحية تمرير النفط الروسي «المعاقب» أميركياً، الى الاسواق العالمية عبر «غسالة» أذربيجان، ولو أدى ذلك الى تضرر «الحليف» الايراني. وكذلك ستعمد الصين الى الاستعانة بالنفوذ التركي لفتح الطريق امام وصول بضائعها الى الاسواق الأوروبية. هو صراع الجابرية على المصالح في آسيا الوسطى.
وفي الشمال السوري اعادة «دوزنة» الفوضى الميدانية التي حصلت سابقاً، وعودة الغارات على المناطق القريبة من الحدود السورية-العراقية التي تشكل مصلحة حيوية لإيران، كمثل ممر البوكمال في دير الزور.
وفي الجنوب السوري ومع استمرار التحركات في السويداء، يجري التحضير للخطوة التالية عبر السعي لفتح ممر مباشر من الاردن الى داخل سوريا، ومنه الى السويداء تحت مظلة حماية جوية اردنية-اميركية بذريعة تأمين الحاجات المعيشية للأهالي. الواضح انه تجري صياغة وترسيخ واقع ميداني جديد، فيما يدور نقاش حول احتمال اعلان الاردن فشل المبادرة العربية باتجاه الانفتاح على سوريا نتيجة استمرار لا بل ازدياد عمليات تهريب الكابتاغون.
ولكن هذه التعقيدات التي أثّرت سلباً على لبنان، ستبقى في اطارها المحدود على مستوى العناوين الاقليمية العريضة.
ويروي ديبلوماسي خليجي ما يمكن اعتباره بأنه يختصر الصورة، فيقول انّ المفاوضات السرية التي كانت ترعاها قطر بين الأميركيين والايرانيين كانت تشهد نقاشات صاخبة وحادة في بعض الأحيان ما كان يدفع للاعتقاد بعد انتهائها بأنها لن تستكمل. لكن وفي اليوم التالي كان الفريق الايراني المفاوض يبادر للسؤال عن موعد جولة التفاوض الجديدة. والوضع الراهن هو كذلك لناحية رفع الصوت وتصاعد الجلبة بغية تحسين المواقع، لكن الاتجاه العام معروف لناحية اعادة رسم خارطة النفوذ السياسي في المنطقة وتثبيت القاعدة الجديدة للعبة.
ومن هذه الزاوية يمكن تفسير التسريبات التي جرى ترويجها عن مصادر “حزب الله” حول دوحة 2 وشروطه بإجراء تعديلات جوهرية على تركيبة ادارة الدولة. وهو ما يتماهى مع الرسائل الاقليمية الاعتراضية طالما أن الوقت الضائع يسمح بذلك فالقرار الدولي والعربي بعدم المس بصيغة الطائف كان قد اتخذ خلال المرحلة الماضية يوم كان البحث بدأ حول حل للأزمة في لبنان. وجاء ذلك رداً على ما قيل حول وجود شهية لـ”حزب الله” بالذهاب الى مؤتمر تأسيسي لانتاج دستور جديد يرتكز على المثالثة. ويومها أيضاً أعلنت قيادة «حزب الله»، التي اشتهرت بانتهاجها سياسة واقعية، على لسان أمينها العام التزامها باتفاق الطائف وعدم وجود نية لديها لادخال تعديلات جوهرية وبنيوية عليه. وهو ما يؤكد بأن التسريبات الحاصلة الآن تهدف الى السعي لتحسين المواقع اذا سمحت الظروف.
لكن الاشارة الابرز في الخطاب الأخير للسيد نصرالله كانت بالدعوة لفتح الحدود البحرية امام موجات لجوء النازحين السوريين. ولهذا الموقف خلفياته الأبعد وفق ما تقرأه اوساط ديبلوماسية متابعة.
فهي تضعه في اطار الصراع الكبير الذي تشهده أوروبا بين روسيا والولايات المتحدة. ففي مراحل سابقة جرى وضع الاهتزاز الفرنسي الداخلي مع موجة احتجاجات الجالية الجزائرية في اطار طلب بوتين من الجزائر تحريك جاليتها في فرنسا انتقاماً من موقف باريس من الحرب الدائرة في اوكرانيا، وبهدف لجم تنسيقها مع الادارة الاميركية.
وجرى لاحقاً البحث عن بصمات روسية في الانقلابات المتتالية في افريقيا والتي أدت الى خسارة باريس لنفوذها في الساحل الافريقي. وكذلك جرى وضع التوتير المفاجئ في كوسوفو، في خانة التحريض الروسي لفتح جرح داخل اوروبا يؤدي لاشغالها عن أوكرانيا.
وفي هذا الوقت وإزاء مشاكل أوروبية عديدة وفي طليعتها أزمة النزوح، تسجّل الحكومات الأوروبية تراجعا شعبيا لصالح أحزاب اليمين القومي والمتشدد. وهذه نتيجة طبيعية في مسارات تاريخية مشابهة. والأحزاب اليمينية المتطرفة والقومية تطرح هدفا اساسيا ينادي بإعادة النظر بفكرة الاتحاد الأوروبي، كما لا تخفي هذه الأحزاب تعاطفها مع بوتين.
وعلى سبيل المثال فإنّ آخر مظاهر هذا التوجه ظهر في نتائج انتخابات سلوفاكيا التي أفرزت وصول اليمين المتشدد الى السلطة. والانتخابات البولندية منتصف هذا الشهر يركز فيها اليمين القومي على قضية الهجرة كورقة انتخابية رابحة. وكذلك يفعل اليمين في المانيا والذي يعتمد على ملف الهجرة كعنوان لجذب الناخبين. وعموماً فإنّ اوروبا، التي تتجه الصيف المقبل لانتخاب برلمانها، يتصدر بند الهجرة حملاتها الانتخابية، وسط دعوات لوقف الانخراط في الحرب الاوكرانية الى جانب الناتو.
واستطراداً فإنّ السؤال الذي يطرح حول ما اذا كان تدفق النازحين السوريين المفاجئ خلال الاسابع الماضية الى لبنان متعمّدا وفي اطار تفاهمات حاصلة نسجتها موسكو وتهدف للضغط على اوروبا؟ وما عزّز هذا الاعتقاد ارتفاع الاصوات التي تنادي بفتح البحر امام موجات النزوح الى اوروبا عوضا عن اتخاذ خطوات على مستوى الحكومة لإيقاف هذا التسرّب السوري، والذي يبدو أنه قائم من خلال قرار كبير متخذ وليس فقط على مستوى الشبكات المعروفة.
في مطلق الأحوال لا بد من مقاربة هذه المرحلة بكثير من الحكمة وقليل من الأنانية رغم ان الميزة التي تشتهر بها الطبقة السياسية اللبنانية هي العكس تماماً.