| جورج علم |
تتساقط أوراق الخريف. تتعرّى الدولة من بقايا وريقاتها. لا رئيس. لا موعد على صفحة الأيام. لا يقظة ضمير، ولا روح للمسؤوليّة. عام يمرّ على الشغور، ونواب يتقاضون من أموال الشعب، ويبددون أوقاتهم ما بين السفر والسمر، قرارهم مصادر، إنه لدى المرجعيّة، أو رئيس الكتلة. لا يجرؤون على دخول قاعة مجلس النواب لانتخاب رئيس وفق شريعة الدستور، إلاّ إذا أمر الآمر، أو حرّك “الريموت كونترول” ساكناً.
والآمر بدوره مأمور، ينتظر الوحي، يعلّل النفس بـ”عسى ولعلّ” يحمل الموفد الرئاسي الفرنسي جديداً، أو الموفد القطري، أو الأميركي “ضابط إيقاع ترسيم الحدود”، والنتيجة أن فول أيلول لم يصبح في المكيول، ورياح تشرين وفيّة لمسارها، تعرّي ما تبقى من وريقات الكرامة في الحديقة اللبنانيّة، تهبّ من السهوب الحافلة بالمتغيّرات في الشرق الأوسط الجديد، وتحمل غباراً كثيفاً يحجب الرؤية، وعواصف من البرق والرعد قد تتحوّل إلى صواعق قاتلة.
عندما يتحدث الموفد الفرنسي، إنما يتحدث بلغة فرنسيّة عن أفكار أميركيّة. وعندما يتحدث الموفد القطري، إنما يتحدث بلغة عربيّة، مشبعة بلكنة خليجيّة، ليعبّر عن توجهات أميركيّة. هناك “خماسيّة” تجتمع لكن حول المندوب الأميركي صاحب الحضور والإمتياز. إجتماعات من دون قرارات، بل مجرد قصاصات من ورق محبّرة بإملاءات، ونصائح إلى أمراء الطوائف، بقيت لغاية الساعة مجرّد حبر على ورق، ومن دون رادع أو متابع.
قدر لبنان أن يكون خط مواجهة أميركيّة ـ إيرانيّة. وقدر اللبنانييّن أن يدفعوا الثمن. ثمن الكلفة، ثمن الإنتظار، وثمن التبعات المستقبليّة. تريده الولايات المتحدة الحبّة الأخيرة في عنقود التطبيع، فيما تريده إيران ساحة نفوذ مطلّة على البحر المتوسط.
منذ العام 2004 ولغاية 2023 أرجوحة زمن مثقلة بالخيبات والأزمات، يتسلّى بها أصحاب المصالح، ومشدودة ما بين النفوذ الأميركي، والتمدّد الإيراني.
حاول العملاق الصيني أن يخترق، ويغيّر من قواعد اللعبة. سعى إلى تطبيع العلاقات ما بين السعوديّة وإيران ـ أكبر موردي نفط في المنطقة والعالم ـ لكن الأميركي سرعان ما استخدم حق النقض “الفيتو”، ومارس نفوذه كي يعود الجميع إلى بيت الطاعة، والدليل أن تطبيع العلاقات إنما يتم على وقع الدبلوماسيّة الأميركيّة، فيما اكتفت الصين بالحفاظ على إمدادات “الحزام والطريق” النفطيّة من كلا البلدين.
والحقيقة تقال بأن عمليّة التطبيع لم تنطلق بالزخم المرجو لها، حافظت على التعهدات، وأخلّت بالواجبات. صحيح أنها لم تنتكس، لكن الصحيح ايضاً أنها لم ترتق الى المستويات المطلوبة، لا في اليمن، ولا في العراق، ولا في سوريا أو لبنان، هناك الكثير من الثغرات، والتباينات، والقليل من الإنجازات، والإصلاحات. والسبب الأميركي، بماذا يفكر؟ ما الهدف، أو مجموعة الأهداف التي يرمي إلى تحقيقها؟ وما هي السيناريوهات؟
في الأمس القريب توصّل مع الإيراني إلى “صفقة” لتبادل مسجونين، والإفراج عن أموال محتجزة، في الوقت الذي كان يتحدث فيه إعلامه عن بوادر “صفقة” لتطبيع العلاقات ما بين السعوديّة والعدو الإسرائيلي. ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان كشف في حديثه إلى شبكة “فوكس نيوز” الأميركيّة عن “المفاوضات الجارية بين الرياض وواشنطن بهدف التوصل إلى نتائج ملموسة ترفع معاناة الفلسطينييّن”. مشدّداً على أن “إيجاد حلّ عادل للقضيّة الفلسطينيّة أساسيّاً في أي تطبيع للعلاقات مع إسرائيل”. ورأى أنه “في حال نجحت إدارة بايدن في أن تعقد اتفاقاً بين السعوديّة وإسرائيل، فسيكون ذلك أضخم اتفاق منذ انتهاء الحرب الباردة”.
أزعج هذا الكلام الجانب الإيراني، وردّ الرئيس إبراهيم رئيسي في مقابلة مع شبكة “سي إن إن مؤكداً أن الجهود التي ترعاها واشنطن لتطبيع العلاقات بين إسرائيل والمملكة العربيّة السعوديّة، ودول الخليج، لن تحقق نجاحاً”. وأعطى خلال المقابلة إشارات على جانب من الأهميّة، منها أن التطبيع مع السعوديّة حدوده الحرص على المصالح العليا المشتركة، وأن إيران لن تتخلّى عن دورها في الإقليم. وأن الاتفاق الأخير مع واشنطن حول تبادل المحتجزين كان لاعتبارات إنسانية… لكنه لم يقفل الباب أمام احتمال التوصل إلى اتفاق ثنائي مع الولايات المتحدة حول الملف النووي، قبل أن تدخل إدارة الرئيس بايدن حمى الانتخابات الرئاسيّة.
وعلى وقع دبلوماسيّة التطبيع، تتخوّف بعض الجهات المعنيّة في الخماسيّة العربيّة ـ الدوليّة أن يدفع لبنان، القابع على خطّ التماس الأميركي ـ الإيراني، الثمن باهظاً لتغطيّة أي “صفقة” تطبيع محتملة. يتحدثون صراحة عن خطّ مواجهة جديد تعلو مداميكه ما بين اللبناني والنازح السوري، يشقع حجارته الأميركي بالتنسيق والتعاون مع الإتحاد الأوروبي الذي يصرّ على الدمج، فيما تؤجج حماوته عوامل الفقر، والعوز، والبطالة، والانسداد السياسي، والمالي، والاقتصادي…
إن أي مواجهة يُخطّط لها ما بين اللبنانييّن والنازحين تحت شعار الدفاع عن الأرض، والعرض، والمقتنى، ولقمة العيش، ستكون مكلفة.. وربما مطلوبة لخلط الكثير من الأوراق في الشرق الأوسط، ومعالجة الكثير من الملفات التي تصنّف حاليّاً في خانة المستحيلات!