ليس حبراً على ورق!

فيصل طالب (*)

أذكر في عهد الدراسة الأول أنّ المعلّمين كانوا يولون أهمّية قصوى لجمالية الخط ووضوحه، فيخصّصون حصصاً معينة لتعلّم رسم الخط، ويتابعون شؤونه في سائر المواد الدراسية، ويوجّهون في هذا السبيل إلى التقنيات المناسبة لاستخدام الريشة، التي ما كان يجفّ حبرها في أثناء الكتابة حتى يعاود التلميذ غمسها في حبر الدواة الموضوعة فوق طبقة المقعد الدراسي، ليستكمل الكتابة فوق القرطاس المعدّ لهذه الغاية، مع ما كان يرافق كل ذلك من انتقال الحبر أحياناً إلى الأيدي و”المراييل”، وما كان يتسبّب في انزعاج الأمّهات وتبرّمهن من عناء التنظيف وإزالة البقع عن الزيّ المدرسي. تجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أنّ مدرّس الخطوط لم يكن متخصصاً في هذا المجال، وقد يكون مدرّساً لأيّ مادة من المواد، خصوصاً أنّ جيل المعلمين في ذاك الزمان كان يتسم بالإجمال بجودة الخط وإتقان أصوله؛ الأمر الذي جعل متابعة خطوط التلامذة وأمر تصويبها وتقييمها على عاتق جميع معلّمي الصف الدراسي من دون استثناء.

أستحضر هذه الذكريات في معرض ما آلت إليه الخطوط في كتابات التلامذة في هذه الأيام من جهة، وما جرى من استغناء تدريجي عن استخدام القلم والقرطاس، في ظل سيطرة الكتابة الالكترونية لدى الجميع صغاراً وكباراً، من جهة ثانية. سبق ذلك، بعد انحسار الكتابة بالريشة وشيوع استخدام أقلام الحبر السائل ثمّ الناشف، تراجع الاهتمام من قبل المدارس بشؤون الخط لحساب التركيز على المضمون المعرفي، بإغفال خطير للربط المفهومي بين الخط ومحموله، وتعبيره عن شخصية الكاتب، وعلاقته العضوية بالتشكيل الفنّي بأوسع أبعاده.

وعلى الرغم من أن التقنيات الحديثة استطاعت إبراز لوحات خطّية جميلة، إِلَّا أنّها ظلّت تفتقر إلى اللمسات الإبداعية والنبضات الجمالية للخط اليدوي المشبعة بأحاسيس الكاتب وانفعالاته وروحانيته المتأتية من علاقة الخط العربي بكتابة النصوص الدينية.

هل يعني ذلك أنّنا قادمون إلى عالم من دون أوراق وأقلام؟ وهل أمست الكتابة بخط اليد في مهبّ الريح الرقمية، في ضوء ما تشهده الكتابة اليدوية من تراجع مثير للقلق؟ هل اختفت أو كادت عبارة “حسّن خطّك” التي كان التلامذة يسمعونها أو يقرأونها على كرّاساتهم المصحّحة؟ وهل خسر الإنسان إحدى مميّزاته التي تعرّف به وتعكس شخصيته وسلوكه ومزاجه، وتميزه من غيره (تفسير الخط)، تماماً كالبصمة والتوقيع الشخصي ونبرة الصوت وغير ذلك؟ هل سلبت الكتابة الإلكترونية روح الكتابة، وغدت، مهما تنوّعت أشكالها، نوعاً من الرتابة النمطية، فانتقلت بنا فعلاً إلى كتابة ليست حبراً على ورق، كما هي حال الكتابة الورقية، لتحيل الأخيرة على التقاعد، وتبقي منها وسيطيها فقط “حبر على ورق”، بمعنى اللاجدوى وفقدان الأهمّية؟!
ومن دون الدخول في المفاضلة وإظهار التمايز بين الكتابة الورقية والكتابة الرقمية، فإنّه ليس من عاقل لا يعترف بما قدّمته الأخيرة من خدمات السرعة والسلاسة وفورية الإرسال، وسهولة الحفظ والأرشفة، وعمليات التصحيح والتعديل والتقديم والتأخير، وإضافة الألوان والصور والصوت إلى المادة المكتوبة، فضلاً عن سهولة النشر والتوزيع والانتشار، واختصار الكلفة، وإمكانية التنزيل والتخزين والنقل والنقد والتعليق، وغير ذلك من الخصائص والمميزات الفنّية التي أطلقت عالم الكتابة إلى فضاءات لم يكن أحد يتصوّر رحابتها وغناها. ومع ذلك فإنّ الإنصاف يقتضي أيضاً الاعتراف بأنّ الكتابة الورقية لمّا تزل تحتفظ بمناخات العراقة والأناقة والجمالية الفنّية وعبق محمولها التاريخي والديني الذي ترسّخ في الوجدان. هذه الصفات أضفت على المحتوى المعرفي قيمة كبرى، وأظهرته بأبهى حلّة وأجمل إطار، وأبرزت القدرات والمهارات الفنّية التي يمتلكها الكتّاب والخطّاطون التي سهّلت نسبة الخط إلى صاحبه، ليكون بطاقة من بطاقات التعريف به، وهذا ما تؤكده رغبة القرّاء دائماً في رؤية صفحات لكبار الكتّاب مخطوطة بأقلامهم، حيث يبدو المحتوى المكتوب نابضاً بالحياة، معبّراً بأفضل ما يكون التعبير عن خلجات المشاعر والأحاسيس والخواطر في تضاعيف خطوطهم وانسيابيتها وتعرّجاتها…

لقد صار من المسلّمات التربوية أن الكتابة اليدوية هي تمرينات حركيّة تساعد على تيسير القراءة والكتابة لدى المتعلّمين، وتعمّق وترسّخ ما يدركه العقل في عمليات التعلّم، فتُسهم في تركيز الأفكار وتكوين الملاحظات واستخلاص النتائج، وتسهّل استدعاء المعارف المكتسبة بشكل أيسر.

في العام 2021 أدرجت اليونسكو الخط العربي على قائمة التراث الثقافي العالمي غير المادي، في مبادرة للحفاظ على هذا الفن الجمالي الموغل في التاريخ والمفتوح على النماء والترقّي والعالمية. وتمّ تعيين 23 كانون الثاني من كل عام يوماً عالمياً للكتابة بخط اليد، تأكيداً على أنّ التدوين اليدوي، رغم كل الخيارات التقنية المفتوحة على التطوّر والإضافة المستمرّة، سيبقى خياراً إنسانياً يحفظ من الضياع نوعاً من التواصل الحميم، ويؤرّخ لمراحل من التطوّر التاريخي للتراث البشري العابق برائحة الإبداع والإنسانية.

(*) المدير العام السابق للثقافة