الراحل وحيداً…

/ ابراهيم الامين /

لو أنك كتبت أنت الرثاء وأعفيتنا جميعاً من هذا الحمل، لو أنك، أنت، قلت ما تحب أن يقال فيك، وأن يحجب عن اسمك ما كنت راغباً في محوه، لو أنك قلت لنا كيف تحب رسم صورتك في لحظة الغياب، لو أنك قلت دعكم من هذه الحكاية، وتلك الرحلة، ولا تقفوا عند هذا التل، وعودوا بي الى حيث رغبت في أن أكون في لحظة الوحدة.

فمن منا يقدر على تخيّل ما كنت تفكر فيه أخيراً. لو فعلت ذلك لرسبنا جميعاً في امتحان الحديث عنك، وربما، لو أتيحت الفرصة لكل من يريد تذكّرك، أن تكشف فيه علامات الضعف إن قصّر أو بالغ في الكلام، وكان سيكون لضحكتك أن تسخر من كل ألاعيبنا. ونحن نحاول الآن، بعد فوات الأوان، التعرّف على ما كنت عليه أنت، في آخر الزمان. كنت ستمزق كل الأوراق التي كتبت، وربما احتفظت ببعضها، إن وجدت فيها الحب الذي تشتهيه، وكنت لعرفت من بيننا الأقرب الى عقلك أو قلبك أو من يقدر على الاقتراب من حقيقة أحلامك. لكن الحياة لا تسير على هذا النحو. هي قصة تعيد سرد ذاتها مع كل غياب. وليست عند البشر أدوات جديدة لقياس الإحساس بالألم أو لحظة ملامسة الموت.

ليس عندهم سوى ما تخيّلوه من قبل، وهم يسيرون في جنازات الآخرين، حيث ينظرون الى الحسرة والتعب والإعياء على من بقي واقفاً ينتظر موعده الآتي. ولأن الجمع متى التمّ، سيذكرك كاتباً عن الآخرين ولأجلهم، فإن الجمع متى انفضّ يتخيّل أنه أخذ حصته منك، وفي حالتك، يأمل الخائفون أن تصيبهم العدوى منك، ولو كانت ألماً، لكن حظهم العاثر يعيدهم الى حقيقتهم، مجرد أنفس تخاف لحظة الرذاذ الأخير. ولأن الحياة تسير تاركة خلفها كل شيء، فإن الموت يمنح صاحبه فقط حظ السير غير ناظر الى الخلف أيضاً. لكنه موت لئيم، يلزم كل الباقين، بالنظر الى ما يتحرك من حولهم، لكنه لا يمنحهم فرصة التجربة.

وبينما تمضي النساء باكيات على حيّ لا يقرأ في عقل من رحل، ويمضي الرجال حالمين براحل يعلمنا عن مكتشفه، ها نحن، وأنت الراحل وحيداً، وقد تركتنا جميعاً، ينظر بعضنا إلى بعض، ولا نعرف إن كنا نفحص صدق حزننا على من فقدناه أو على أنفسنا، قبل أن نبتعد غارقين في الأسى. في لحظتي القاسية هذه، أعود معك الى من كنت تهوى مآثره، ومن رغبت في أن تكون نديمه، ذلك الجواهري الحالم بمجده دوماً، وهو يعيد على مسامعنا درسه الأزلي: قدْ يقتُلُ الحُزنُ مَنْ أحبابهُ بَعُدوا عنه، فكيفَ بمنْ أحبابُهُ فُقِدوا!