مرفأ بيروت
تصوير عباس سلمان

مخاطر في مرافئ لبنان: سفن “غير مطابقة”!

نعوم ريدان ـ “معهد واشنطن”

في ذكرى انفجار مرفأ بيروت في عام 2020، لم تفعل السلطات اللبنانية شيئاً لتقليل المخاطر التي تشكلها السفن غير المستوفية للمعايير مثل تلك المتورطة في كارثة المرفأ.

قبل ثلاث سنوات في مثل هذا الشهر، سلط الانفجار المدمر لمرفأ بيروت الضوء على المخاطر الكثيرة التي يطرحها الشحن غير المستوفي للمعايير في البحر المتوسط وفي الخارج. فعندما رست سفينة الشحن “روسوس” رافعةً علم مولدوفا في بيروت في تشرين الثاني/نوفمبر 2013 وهي محملة بـ 2750 طناً من نترات الأمونيوم، كانت عيوب شديدة تشوب آلاتها وهيكلها. ولو كان لدى لبنان أنظمة بحرية قوية والقدرة على احتجاز السفن غير المستوفية للمعايير، لكان قد تعامل مع سفينة الشحن “روسوس” قبل أشهر من إبحارها إلى العاصمة محمّلة بمواد شديدة الانفجار.

وسنحت الفرصة للقيام بذلك في حزيران/يونيو 2013، عندما رست السفينة في مرفأ صيدا وتبين أنها تعاني من سبعة عشر عيباً، من بينها عيوب متعلقة بمحركاتها يمكن حجز السفينة على أساسها. ولكن لم يتم اتخاذ أي إجراء، وتوقفت “روسوس” لاحقاً في بيروت وهي في طريقها إلى موزمبيق، لنقل شحنات إضافية وفقاً لبعض التقارير. وهناك، تم حجزها بسبب مجموعة من العيوب والديون غير المسددة، فتخلى مالكها عنها. وبقيت نترات الأمونيوم مخزنة في المرفأ بطريقة غير صحيحة على مدى سبع سنوات إلى أن انفجرت وأسفرت عن مقتل أكثر من 200 شخص وإصابة الآلاف وتدمير أجزاء كبيرة من المدينة.

وكان يُفترض بالانفجار أن يُرغم الدولة على اتخاذ تدابير جذرية بحق السفن غير المستوفية للمعايير، وإصلاح قطاعها البحري، وضمان محاسبة المسؤولين عن سوء إدارة المرافئ والفساد. ولكن بعد ثلاث سنوات على المأساة، تشير بعض المصادر إلى أن السفن التي تعاني من عيوب كبرى تستمر في دخول المرافئ اللبنانية ومغادرتها دون عوائق وسط تدخل سياسي مستمر في التحقيق في قضية الانفجار.

حدود لبنان المنصوص عليها في اللوائح التنظيمية

في مجال الشحن، يشير مصطلح “العيب” إلى شرط لا يتوافق مع الاتفاقيات الدولية ذات الصلة، من بينها أهم معاهدة بشأن سلامة السفن التجارية وهي “الاتفاقية الدولية لسلامة الأرواح في البحار”. وقد ترتبط العيوب بالظروف الهيكلية، وسلامة الملاحة، ومنع التلوث، والعديد من العوامل الأخرى.

ومنذ انفجار مرفأ بيروت، استمرت المرافئ اللبنانية في استضافة سفن تشوبها عيوب كبيرة. وعلى غرار سفينة “روسوس”، تم تسجيل العديد من هذه السفن أيضاً من قبل بلدان أُدرجت أعلامها على القائمة السوداء بسبب أدائها السيئ فيما يتعلق بمسائل السلامة البحرية. وتستند هذه النتائج إلى عمليات التفتيش التي أجرتها أنظمة الرقابة على السفن من قبل دولة الميناء، في لبنان ودول أخرى. وتعرّف “المنظمة البحرية الدولية” الرقابة على السفن من قبل دولة الميناء (بالإنكليزية PSC) بـ”تفتيش السفن الأجنبية في المرافئ الوطنية للتحقق من أن حالة السفينة ومعداتها تتوافق مع متطلبات اللوائح (الأنظمة) الدولية”، وبالتالي توفر “شبكة أمان لاحتجاز السفن غير المستوفية للمعايير”. ولكن قدرة الدولة على احتجاز السفينة على خلفية عيوب كبرى تعتمد على استعدادها وقدرتها على توقيف السفينة ومواجهة أي دعاوى قضائية محتملة. وفي حالة بلد يرزح تحت وطأة الاستقطاب السياسي والفساد على غرار لبنان، قد تتأثر هذه القدرة بالعلاقات السياسية أيضاً.

وفيما يلي تحليل لخمس سفن شحن عام تم اختيار حالاتها من بين مجموعة واسعة من السفن غير المستوفية للمعايير بناءً على شدة عيوبها، وسجل احتجازها، وتورطها في أنشطة غير مشروعة. وتم تجميع المعلومات من قاعدة بيانات الشحن “إيكواسيس”، ومصادر محلية، وبيانات السفن من “مارينترافيك”، ومن “مذكرة تفاهم باريس بشأن الرقابة على السفن من قبل دولة الميناء”، وهي نظام رقابة على السفن متعدد الجنسيات أنشأته الدول الأوروبية في عام 1982. ومنذ ذلك الحين توسع نطاق “مذكرة تفاهم باريس” إلى سبع وعشرين سلطة بحرية مشاركة وشكلت نموذجاً يُحتذى به لإنشاء أنظمة مماثلة في مناطق أخرى – من بينها “مذكرة تفاهم البحر الأبيض المتوسط”، التي لبنان عضو فيها”.

سفن محفوفة بالمخاطر في المياه اللبنانية

بعد أيام قليلة من انفجار مرفأ بيروت، تم تفتيش السفينة “سافي” التي ترفع علم توغو (رقم تعريف السفينة الخاص بـ “المنظمة البحرية الدولية” 7108899) في مرفأ طرابلس شمال لبنان. وهناك، أظهر تقرير التفتيش الخاص بالرقابة على السفن من قبل دولة الميناء بتاريخ 11 آب/أغسطس 2020، وجود ستة عشر عيباً في السفينة، من بينها عيوب تستدعي الاحتجاز في مرافئ أخرى. على سبيل المثال، لم تخضع الأغطية والفتحات المطلة من أسطح السفينة إلى العنابر للصيانة الصحيحة، مما قد يتسبب بتسرب المياه إليها وغرقها، وتعرَّض سطحها وهيكلها الى التآكل، وعانت من مشاكل متعددة تتعلق بـ “المدونة الدولية لإدارة السلامة”. وتهدف “المدونة الدولية لإدارة السلامة”، التي تشكل جزءاً من “الاتفاقية الدولية لسلامة الأرواح في البحار”، إلى توفير “معيار دولي للإدارة والتشغيل الآمنين للسفن ومنع التلوث”.

وكان لسفينة “سافي” سجل حافل من مثل هذه المشاكل قبل عام 2020 بفترة طويلة. ففي شباط/فبراير 2013، تم توقيفها لمدة سبعة عشر يوماً في ميناء كاتانيا الإيطالي، حيث أظهر تقرير التفتيش الخاص بالرقابة على السفن من قبل دولة الميناء أن لديها 67 عيباً، من بينها مشاكل هيكلية. وبعد ذلك بوقت قصير، تم حظرها في الموانئ الأوروبية حيث لم تتوقف في حوض لإصلاح السفن. وبحلول عام 2021، تم إيقاف السفينة غير المستوفية للمعايير عن العمل.

وتحمل سفينة “سافي”، التي تديرها شركة “غلوبل ماندجمنت أند تريدينغ” (Global Management and Trading) التي تتخذ من لبنان مقراً لها، علم توغو، وهو أحد الأعلام المدرجة على القائمة السوداء بموجب “مذكرة تفاهم باريس” على خلفية أدائها السيئ. وبالمثل، يَعتبر “خفر السواحل الأميركي” علم توغو “عالي الخطورة” نظراً إلى نسبة احتجاز السفن التي تحمله. ومنذ عام 2017، يسمح “مكتب التسجيل الدولي للسفن” (ومقره اليونان) برفع علم توغو بموجب عقد مع حكومة توغو. ومع ذلك، تفيد التقارير أن بعض السفن التي لم تخضع لصيانة كافية والتي تحمل هذا العلم كانت متورطة في تهريب المخدرات ونقل النفط الفنزويلي والإيراني الخاضعَين للعقوبات الأميركية. وفي ظل هذه المخاوف، “حاولت وزارة الخارجية الأميركية مراراً وتكراراً مساعدة حكومة توغو على تحسين أدائها”.

وتتردد سفينة أخرى تحمل اسم “نوراي” (“المنظمة البحرية الدولية” 7520712) وترفع علم توغو إلى المرافئ اللبنانية منذ عام 2020. وفي وقت سابق من هذا العام رفعت السفينة التي تديرها شركة مقرها لبنان علم توغو بعد أن كانت تبحر تحت علم الكاميرون المدرج أيضاً على القائمة السوداء.

ويفيد تقرير التفتيش الخاص بالرقابة على السفن من قبل دولة الميناء أنه في شباط/فبراير 2022، تم اكتشاف أحد عشر عيباً في “نوراي” بينما كانت ترسو في صيدا، ولكن لم يتم اتخاذ أي إجراء. وعندما تم تفتيش السفينة بعد أربعة أشهر فقط في ميناء بوتاس التركي، تم تسجيل خمسين عيباً، واحتُجزت السفينة لمدة تسعة أيام. وظهر تباين مماثل في عام 2023. فعندما تم تفتيش “نوراي” في ميناء طرابلس في شباط/فبراير الماضي، تبين أن فيها تسعة عيوب، ولكن لم يُتخذ أي إجراء. وعندما رست في ميناء كاليمنوس اليوناني في أيار/مايو، تم توثيق 22 عيباً، وتم توقيف السفينة لمدة أحد عشر يوماً لمعالجة هذه العيوب قبل متابعة الإبحار.

وترددت سفينة شحن أخرى عالية الخطورة تحمل اسم “ناتاليا” (“المنظمة البحرية الدولية” 8113592) إلى المرافئ اللبنانية دون أن يتم احتجازها، وكانت متورطة في تهريب المخدرات قبل إيقافها عن العمل في تشرين الثاني/نوفمبر 2021. وفي آب/أغسطس من ذلك العام، أوقفت الشرطة الإسبانية السفينة لأنها كانت تحمل ما قيمته حوالي 470 مليون دولار من الحشيش الذي كان وجهته أوروبا.

وبعد أن استبدلت السفينة علم توغو بعلم بالاو في وقت سابق من ذلك العام، أفادت بعض التقارير أنها كانت تبحر من لبنان عبر ميناء الإسكندرونة التركي إلى لاغوس في نيجيريا، عندما تم اعتراضها. وبالإضافة إلى نقلها المخدرات غير المشروعة، تبين أن السفينة تعاني من “تسرب المياه وتعطل المحرك”. ووفقاً لبعض التقارير، كان المدير التجاري لـ”ناتاليا” مرتبطاً بشركة مقرها لبنان تُعرف باسم GMZ وتشغّل العديد من السفن عالية المخاطر.

وغرقت سفينة رابعة غير مستوفية للمعايير، وهي السفينة “جو 2” (“المنظمة البحرية الدولية” 9070515) التي ترفع علم غينيا بيساو، قبالة الساحل التركي خلال عاصفة في 5 نيسان/أبريل لأسباب لا تزال غير واضحة. وفي آذار/مارس، تم تفتيش السفينة في طرابلس وتبين أنها تعاني من خمسة عيوب، من بينها غياب ترتيبات القطر في حالات الطوارئ، ولم يتم اتخاذ أي إجراء. وفي السنوات السابقة، اتُهم مالك السفينة بإساءة معاملة الطاقم وعدم دفع أجورهم.

خامساً، هناك سفينة “إن أس يونيون” (NS Union) (“المنظمة البحرية الدولية” 8502133) التي ترفع علم غامبيا والتي سُمح لها بزيارة مرفأ بيروت ومغادرته بحرية في شهر كانون الثاني/يناير من هذا العام، ولكن تم توقيفها في نيسان/أبريل في ميناء هيراكليون اليوناني واحتجازها لمدة ثمانية وأربعين يوماً بسبب اكتشاف 38 عيباً. وفي العام الماضي، تم احتجاز أو حظر الكثير من السفن الأخرى التي تبحر حاملةً علم غامبيا في الموانئ الأوروبية والمتوسطية بسبب عيوبها المتعددة.

اتخاذ إجراءات ضد السفن غير المستوفية للمعايير

للمساهمة في ضمان السلامة البحرية ومكافحة النشاط الإجرامي في البحر الأبيض المتوسط، على الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى مساعدة لبنان على ابتكار وتنفيذ أدوات وأنظمة للتعامل مع السفن غير المستوفية للمعايير في مرافئه. ويعني ذلك إصلاح قطاعه البحري واعتماد تشريعات متعلقة بالاتفاقيات الدولية الرئيسية، والتي تشمل “المدونة الدولية لإدارة السلامة”. وتحتاج الحكومة بشدة إلى تحديث قوانينها وأنظمتها الخاصة بأنشطة الشحن، من بينها “نظام المرافئ والموانئ اللبنانية لعام 1966”.

وفي أعقاب انفجار بيروت، وقّع “المركز الدولي لتطوير سياسات الهجرة” ومقره فيينا اتفاقية شراكة مع “الجامعة البحرية العالمية” لمساعدة لبنان على إعداد استراتيجية بحرية متكاملة. وفي المرحلة القادمة، ينبغي على بيروت إعطاء الأولوية لمشكلة الشحن غير المستوفي للمعايير المطلوبة في هذه الاستراتيجية – على الرغم من أن السلطات في الخارج يجب أن تعترف بأن هذه القضية لا تزال تمثل تحدياً كبيراً في الصناعة البحرية العالمية الأوسع نطاقاً.

ومع ذلك، لن يكون أي من هذه الجهود ممكناً دون إجماع سياسي لإنهاء الفراغ الرئاسي في لبنان، الذي بدأ منذ تسعة أشهر، وتشكيل حكومة جديدة يمكنها فعلاً تطبيق الإصلاحات العاجلة في مختلف القطاعات. ولطالما احتاجت الأحزاب السياسية المتنافسة في البلاد إلى وساطة خارجية لإنهاء مشاحناتها، لذلك يجب أن تضطلع واشنطن وشركاؤها الأوروبيون والعرب بدور أكثر نشاطاً في إقناعها بإنهاء المأزق وسن قوانين سليمة من شأنها تسريع وتيرة الإصلاحات الطارئة.