| جورج علم |
صدر في التاسع من الجاري، بيان عن السفارة الروسيّة في بيروت تحت عنوان: “الألعاب الإستعماريّة الجديدة للغرب، وللاجئين السوريّين في لبنان”.
يشكّل البيان إنعطافة روسيّة واضحة وصريحة نحو الداخل اللبناني. لم تعد الحسابات مقتصرة على الدول الخمس: الولايات المتحدة، فرنسا، مصر، المملكة العربيّة السعوديّة وقطر، بل تشمل إيران وروسيا التي لها موقف ممّا يجري على الساحة.
يعود لبنان تحت مظلّة مجموعة الدول السبع. هذه المعادلة عبرت في تاريخه في ما مضى، وكان لها ظروفها السياسيّة، والإقتصاديّة، ولا يصحّ اليوم إلباس الواقع الجديد، خرقة قديمة، إلاّ إذا كان التاريخ يعيد نفسه، وفي وضع كلبنان غالباً ما يعيد التاريخ نفسه.
ويبقى التوقيت مهمّا، صدر البيان في زحمة الإستعدادات لمهمّة الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لو دريان. وعد اللبنانييّن بأنه سيعود في أيلول ليدير حواراً وطنيّاً قد يفضي إلى إنتخاب رئيس للجمهوريّة، وتشكيل حكومة قادرة على إنجاز الإصلاحات المطلوبة من المجتمع الدولي، وصندوق النقد.
حتى الآن هناك غموض يساور مهمّته. جال مرّتين على أمراء الطوائف، ولم يخرج الدخان الأبيض من مدخنته، فهل تكون الثالثة ثابتة؟
هناك الكثير من الغموض وعلامات الإستفهام حول ما يرسم من مخارج. الأزمة معقّدة بما يكفي بسبب التدخلات الخارجيّة، والإنقسامات الداخليّة، ثم أن الموفد الفرنسي ليس معتمداً برتبة سفير فوق العادة مطلق الصلاحيّة، بل هناك دول مشاركة لها رأي وموقف، وصاحبة مصالح وتطلعات، وما يرضي الأميركي قد لا يرضي الإيراني، أو ما يرضي الإيراني قد لا يرضي السعودي أو الفرنسي، خصوصاً أن هذه الدول لم تجتمع كمجموعة واحدة، حول طاولة واحدة، لتتناقش في ما بينها، وتخرج بخريطة طريق إنقاذيّة قابلة للتطبيق.
ويصدر بيان السفارة الروسيّة متزامناً مع أحداث كبرى، وتحولات إقليميّة ودوليّة تزيد المشهد اللبناني تعقيداً. إنه يعكس إمتداد الصراع الروسي ـ الفرنسي من دول الساحل الإفريقي إلى لبنان. ما يجري في النيجر له خلفيات وأبعاد. من وجوهه صراع النفوذ والمصالح بين روسيا من جهة، وفرنسا من جهة أخرى، وتعود الأسباب المباشرة إلى الدور الفرنسي في الصراع حول أوكرانيا، والدعم الذي تقدمه باريس إلى الجيش الأوكراني في مواجهته مع الجيش الروسي.
تأخذ موسكو على الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إستدارته الكاملة نحو المحور الأميركي ـ الأوروبي. كان رجل الحوار والتواصل بين الرئيسين فلاديمير بوتن، وفلودومير زيلنسكي لإيجاد مخرج دبلوماسي ينهي الصراع المسلح، ويرفع كل الملفات الشائكة إلى طاولة الحوار، وفجأة إنقلب على مهمته، وأصبح من أشدّ الزعماء الأوروبييّن خصومة للرئيس الروسي، ولعملياته العسكريّة في أوكرانيا.
ويتزامن كلّ ذلك مع إزدياد التهافت الدولي على القارة السمراء للإستئثار بمواردها، والإستثمار بطاقاتها المتنوّعة. آخر المشاهد كان خروج الرئيس الروسي من إتفاقية تصدير الحبوب عبر البحر الأسود، وجمعه عدداً من رؤساء الدول الإفريقيّة حوله في الكرملين، وتفاهمه معهم حول بناء علاقات استراتيجيّة، ووعده لهم بمدّ دولهم بما يكفي من القمح مقابل شروط ميسّرة.
إن صراع المصالح ما بين روسيا وفرنسا انتقل إلى لبنان، خصوصاً أن بيان السفارة الروسيّة قد ذكّر المهتمّين والمتابعين بالربط السلس والسريع ما بين الداخل السوري، والداخل اللبناني، وتركيزه على أزمة النازحين “حيث أصبح اللبنانيّون، لسوء الحظ، رهائن في هذه اللعبة الجيوسياسيّة التي تخدم مصالح الغرب الذاتيّة”، كما يفيد البيان.
إن اللبنانييّن الرهائن أقدارهم عظيمة، ومستحكمة. إنهم رهائن القضيّة الفلسطينيّة، ومخيّمات الإنتظار في لبنان. في الأمس كان مخيّم عين الحلوة، ولا أحد يدري متى، وكيف يكون دور مخيّم “عين البشعة”. إنهم رهائن النزوح السوري، حيث أن “الغرب، وتحت ذرائع مختلفة يمنع إعادة إعمار سوريا، محاولاً إبقاءها في حالة نزيف دائم، وكفاح طويل ضد الإرهاب الدولي، لذلك يتمّ عمداً إحتجاز الملايين من السوريّين الذين أجبروا على ترك ديارهم، في دول أخرى”، كما جاء في البيان.
إن اللبنانيّين رهائن السلاح المتفلّت الذي يستبيح كراماتهم، وخصوصياتهم خدمة لمصالح جهويّة، إقليميّة لها مطامح ومطامع في دول عربيّة، ضمنها لبنان.
والرهائن المقيّدون المحتجزون، لا يملكون عادة حريّة إتخاذ القرار، فيكف إذا كانوا متباعدين، متخاصمين، منقسمين على أنفسهم حيال كلّ صغيرة أو كبيرة في البلد؟!
ولأنهم كذلك، يصبح التدخل الخارجي من البديهيات، تقوده عقد النفوذ، وتنافس المصالح. فالدول الخمس لها قراءتها للوضع اللبناني، وهي لن تقدم على اجتراح حلول لأنها لا تستطيع في ظلّ غياب كلّ من إيران، وروسيا. قد لا يكون النفوذ الروسي بمستوى ما تملكه إيران، أو فرنسا على الساحة، ولكنه ضارب في تاريخ هذا البلد، وكانت له الصدارة والجدارة في محطات زمنيّة سابقة.
وبناء على ما تقدّم تصبح مهمّة الموفد الفرنسي أكثر تعقيداً. عليه أن يوازن ما بين الشروط الأميركيّة، والمصالح الفرنسيّة، والمطامح الإيرانيّة، والمقاصد الروسيّة، والتطلعات العربيّة، لكي ينجح في تدوير الزوايا الحادة في الداخل اللبناني تمهيداً للتقدم بخريطة طريق متوازنة تؤدي إلى الخروج من النفق.
إن قرع الطبول إيذاناً بشهر أيلول قد لا يؤشر إلى زفّة، وعرس، وصداح، وليالي ملاح، بقدر ما يؤشر إلى قواعد اشتباك جديدة بين روسيا ومن معها، وفرنسا ومن معها، ويعود لبنان في حمى الدول السبع، ومسرحاً لصراع مصالحها، الأمر الذي يبرّر القول، بأنه “قد لا يكون من فول، ولا من مكيول، في أيلول”!