/ غاصب المختار /
بعد 48 سنة على اندلاعها، “لا تنذكر ولا تنعاد”، فحتى مجرّد ذكر الحرب المجنونة التي خاضها اللبنانيون ضد بعضهم خدمة للخارج، والتي اندلعت شرارتها في 13 نيسان، بات يثير القشعريرة والقرف والندم في نفوس جيلنا الذي عاش تفاصيلها اليومية خمس عشرة سنة كاملة، فذهب عمر شبابنا العشريني تحت القصف العشوائي و”نواضير” القناصة، وجولات القتال والمجازر من مدينة إلى مدينة، ومن بلدة الى بلدة ومن قرية إلى قرية، ومن تهجير إلى تهجير… فخسرنا كل شيء ووقفنا على أطلال المباني والبيوت القروية الجميلة نبكي بلداً راح، وعمراً ضاع بالتدمير بدل البناء والتطور والرقي.
نحن الذين عشنا ويلات الحرب، لا نحب أن نتذكرها، ولو أن بعضنا من أصحاب “الرؤوس الحامية” ما زال يعيش أحلامها السوداء باستعادة السيطرة على الحي وعامل القوة “والتشبيح”، ويحنّ إلى فرض “الخوات” وترويع الناس الطيبين بالرصاص، وإلى سرقة منازل “الأوادم” وقتل الابرياء، بعدما تحول المقاتلون، من هذه الجهة وتلك، من “أصحاب قضية” إلى ميليشيا زواريب متقاتلة، ولم يعد للقتال بعد سنتين من رسم خطوط التماس الوهمية من هدف أو نتيجة سوى إبقاء الوضع “ستاتيكو”.
توتر هنا، وقنص هناك، وقذيفة على هذه الرقعة، بينما مال الخارج يتدفق من كل فجٍّ عميق على طرفي القتال، فاغتنى أمراء الحرب ووصلوا إلى السلطة، وتفككت العائلات المستورة. ما من عائلة إلّا وفقدت عزيزاً غالياً، سواء بالموت أو بالهجرة. وما من قرية كبيرة أو صغيرة إلّا وطالها الدمار والتهجير، حتى خط التماس البيروتي من المرفأ إلى كفرشيما، مروراً بالبقعة الشهيرة التي باتت رمزاً، الشياح ـ عين الرمانة، كان يشتعل ويهدأ على إيقاع مشغّلين داخليين وخارجيين، لا لهدف سوى لإبقاء التوتر، بينما كانت الصفقات الخارجية تمر على جثث اللبنانيين ومنها اتفاقات “كامب ديفيد”.
ولكن تبقى الذكرى الجميلة محفورة في القلوب والعقول مما كانت تُسمى محاور بين الشياح وعين الرمانة. قصص حب و”كزدورة” بين شباب وصبايا المنطقتين، متخفّين بين أغصان الشجر الوارفة في البساتين الفسيحة، “فلا عين تشوف ولا قلب يوجع”. هذا أسميناه شارع الحب، وذاك أطلقنا عليه زاروب العشاق، وكم من زيجة حصلت بين أهالي المنطقتين.
وبين الأزقة وعند “مصطبات” البيوت الصغيرة المتواضعة، جلسات كيف وسمر بين مسلمي الشياح ومسيحيي عين الرمانة، “مشروب وسودا نية ولبنة مع ثوم”، وتكافل اجتماعي وتعاضد في المناسبات السعيدة والحزينة. فالعرس هنا يحضره ناس من هناك، والدفن أو الجنّاز يشارك فيه الجميع.
إذا كان لا بد من تذكّر تاريخ مناطق النزاع، يجب أن تبقى هذه الصور الجميلة، وأن تُمحى الصور السوداء، فالمسافة بين منطقة وأخرى قصيرة لا تتجاوز مد اليد للمصافحة وتلاقي القلوب. أمّا من يحن الى أيام الحرب ويرجو استعادتها، ليذهب إلى مناطق أخرى من العالم ما زال القتل فيها مجانياً وبلا هدف سوى السيطرة وتأمين المصالح. أما نحن فنريد أن نعيش ما تبقى لنا من عمر بهدوء، وأن نفرح بأبنائنا وأحفادنا يعيشون في بلد مستقر وهانئ… والسلام على من اتّبع الهدى.