أربعة أشهر مرّت على انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون، من دون أن تتمكن القوى الداخلية من الاتفاق على انتخاب رئيس، أو اجتراح تسوية لمواجهة الانهيار. وإذا احتسبنا مهلة الشهرين الدستورية التي كان يمكن خلالها انجاز الاستحقاق، يعني أن التعطيل حدث منذ ستة اشهر. منذ ذلك الوقت دخل البلد في حالة فوضى يغذيها التعطيل المستمر للمؤسسات الذي تستثمره محاور سياسية لفرض أمر واقع على اللبنانيين ودفع البلد إلى مزيد من الانهيار وتلاشي قطاعات الدولة على ما نشهده من تفكك في بنى أساسية لم يستثن القضاء، ما ينذر بانفجارات أهلية واسعة ومعممة لتحصيل مكاسب في التوازنات القائمة. في المقارنة بين مرحلة 2014 – 2016، يبدو لبنان أمام محطة أخطر بكثير وإن كانت الوقائع متقاطعة، فالداخل عاجز عن انتاج حل في ظل الانهيار والتفلت الذي بدأ يأخذ أبعاداً خطيرة، وبات الجميع يراهن على مرجعيته الخارجية لإحداث خرق يعدل موازين القوى القائمة، وفقاً لـ”النهار”.
الوقائع الراهنة تشير إلى أن ما يحدث هو أبعد من انتخاب رئيس للجمهورية، فالتعطيل يطال اليوم كل المؤسسات، من الحكومة إلى مجلس النواب إلى القضاء والمصارف، وهو تعطيل تستثمره قوى سياسية لفرض واقع جديد يمكن أن يغيّر هوية لبنان وتركيبته في غياب اتفاقات إقليمية ودولية لانتاج حل للوضع اللبناني. لكن استحقاق رئاسة الجمهورية يبقى المدخل الرئيسي لإعادة تشكيل السلطات، وتعطيله يطرح تساؤلات حول الاستهدافات التي تذكرنا بمرحلة انتخاب ميشال عون رئيساً وهو حصل بطريقة التعيين بعد فراغ استمر سنتين بين 2014 و2016 وإن كانت الأوضاع تغيرت داخلياً وإقليمياً ودولياً.
لم يستطع مجلس النواب على مدى 12 جلسة، انتخاب رئيس للجمهورية، وهو اليوم في حالة تعطيل لهذا الاستحقاق. وتعكس أوساط متابعة للملف مخاوف من استعادة التجربة السابقة، وذلك عبر طرح مرشح للرئاسة كاسم وحيد في مقابل الفراغ وكشرط للتسوية. ويتقدم اسم #سليمان فرنجية مرشحاً أوحدَ لـ”حزب الله” الذي يسعى لإحداث خرق يؤدي إلى انتخابه، ويخوض معركته على كل المستويات لإيصاله على الرغم من المعارضة القائمة، وإن طال أمد الأزمة. ويقول مصدر سياسي متابع أن الحزب وضع مع حلفائه خريطة طريق لفرضه مع تصورات أولية لرئاسة الحكومة وقيادة الجيش وحاكمية مصرف لبنان، وهو يراهن على الوقت لتأمين أكثرية نيابية لانتخاب فرنجية وتوفير تغطية إقليمية ودولية لعهده.
يُستدل على ذلك من المواقف اليومية التي يعلنها قادة الحزب، وآخرها كلام رئيس كتلة “الوفاء للمقاومة” النائب محمد رعد بتأكيده “رفض تسمية الخارج رئيس جمهورية لبنان، وأننا لا نقبل أن يملي الخارج ارادته على استحقاقاتنا الوطنية”. لكن الاجواء المحلية والإقليمية لا توحي بأن الأمور سهلة داخلياً وإقليمياً، لكنها وفق محور الممانعة لم تكن بهذه البساطة أيضاً في 2016 عند انتخاب ميشال عون، فهي احتاجت إلى سنتين من الفراغ والتعطيل لفرض الامر الرئاسي الواقع، وإن كان الانتخاب جاء بعد توقيع الاتفاق النووي في 2015 وصفقاته في المنطقة كلها.
فرصة سليمان فرنجية لم تنضج بعد، فهناك معوقات داخلية برفض الفرقاء المسيحيين لانتخابه، خصوصاً “التيار الوطني الحر” و”القوات اللبنانية” اي عدم وجود تغطية مسيحية له. لكن الاهم هو تغطيته عربياً ودولياً كمرشح للممانعة. فدول اجتماع باريس حول الوضع اللبناني حددت عناوين عامة لحل الأزمة، من دون أن تدخل في التفاصيل المرتبطة باستحقاق الرئاسة. اتفقت على مبادئ تشكل خريطة طريق للحل بلا ضغوط مباشرة وإن كان جرى التلويح بفرض عقوبات. ويظهر أن التدخل الدولي ليس على موقف واحد من الأزمة اللبنانية، إضافة إلى ارتباطها بالمنطقة من بوابات عدة من بينها الأزمة السورية والدور الإيراني، وصولاً إلى العراق واليمن. والأبرز هو أن السعودية ليست على استعداد لتقديم المساعدة للبنان طالما أن هناك ما تسميه أطرافاً لبنانية تتدخل في المنطقة خصوصاً في اليمن لتغيير المعادلات القائمة. ويتضح وفق المصدر السياسي أن الولايات المتحدة الأميركية لم تتبن اسم مرشح للرئاسة وكذلك السعودية، فيما فرنسا من خلال حركة اتصالاتها اللبنانية لم تسجل اعتراضاً على أي مرشح، فالمهم بالنسبة اليها انجاز الاستحقاق الرئاسي وتشكيل حكومة والبدء بالاصلاحات. القاسم المشترك بين واشنطن والرياض هو الموقف من “حزب الله”، ولذا بدت السعودية أكثر وضوحاً في موقفها برفضها مرشح الممانعة لرئاسة الجمهورية. وهي لا تبدو متحمسة للانخراط أكثر في الوضع اللبناني، وهو موقف مستمر منذ انتخابات 2016 التي أوصلت بميشال عون الى قصر بعبدا. وكذلك لم يعد في لبنان نقطة ارتكاز سعودية، بفعل البيئة السنية وغياب مرجعية قادرة على المواجهة.
انطلاقاً من ذلك يراهن “حزب الله” ومحوره على تنازلات تقدمها السعودية في الملف اللبناني، وعدم ممانعتها انتخاب فرنجية، مستنداً في الوقت نفسه على عدم وجود رفض فرنسي لانتخابه، وايضاً عدم اعلان واشنطن تأييدها لأي مرشح، ويعمل على تأمين أكبر عدد من الأصوات اي الوصول إلى 65 صوتاً، ولذا يجري اللعب على ورقة أن فرنجية لا يزال على علاقة جيدة مع عدد من الدول العربية وهو لم ينزلق إلى تخريب علاقته بها، فيتركز العمل على إقناع النواب السنّة، وتذليل ممانعة رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط للسير بهذا الخيار وللتصويت لمصلحة فرنجية. وتوازياً يراهن الحزب على الوقت والفراغ لتراجع مقومات الأطراف الأخرى المعارضة وتشتتها. لكن الأمر لا يرتبط فقط بالداخل، فعلى صعيد الخارج لم يتغير شيء يوحي أن طريق فرنجية سالكة، وإن كان جرى اللعب على كلام للسفيرة الاميركية دوروثي شيا خلال لقاء سابق مع رئيس مجلس النواب نبيه بري بأنها لا تمانع انتخاب فرنجية رئيساً، وهو جزء من التكتيك السياسي لقوى الممانعة في معركة مرشحها، علماً أن واشنطن لم تعلن موقفاً رسمياً بهذا الخصوص.
ترشيح فرنجية جاء هذه المرة مباشرة من “حزب الله” وهذا ما يجعل طريقه إلى القصر غير سالكة إلا عبر الأمر الواقع. في 2015 رشحه الرئيس سعد الحريري بمباركة نبيه بري، لكن الحزب كان يريد إيصال مرشحه الأوحد ميشال عون. لذا سنشهد مزيداً من التصعيد والتعطيل لكل مؤسسات الدولة، وهي مرحلة ستطول قد ينهار معها الدستور لتكريس قواعد جديدة للدولة يكون فيها القرار للأقوى وتتكرس معها عملية محاصصة جديدة ونهب كثمن للخروج من المأزق أو الدوامة وفرض وجهة معينة في الداخل. نحن أمام وضع ينزلق أكثر إلى الفوضى عبر إطالة الشغور ويتمدد نحو انفجارات يغذيها الفراغ، وتخريب لكل معالم الدولة، إلى أن يُحسم اسم مرشح الممانعة للرئاسة.