“خماسي باريس”: “جرّب تحزن”!

/ جورج علم /

زار بيروت، قبل اسابيع، وزير خارجيّة إيران، حسين أمير عبد اللهيان، ثم نائبه كبير المفاوضين في الملف النووي الإيراني علي باقر كني، وتم إفتتاح المقر الجديد للسفارة الإيرانيّة.
تزامن هذا النشاط مع اجتماع باريس الخماسي من أجل لبنان، والذي استنزف قدراً من المقالات والتحليلات حول أهميته، وما قد يبنى عليه، قبل أن يتفرّق المجتمعون من دون بيان ختامي.

كان الاجتماع ناقصاً. إيران لم تكن إلى الطاولة، وهي لاعب أساسي. روسيا لم تكن، وقد تذكّرها اللبنانيون مؤخراً من خلال الحديث عن هبة القمح، والفيول. والنقص هذا لا يعطي إشارات إيجابيّة، وإن كان بعض من في الداخل ينظر إلى “الخماسي” نظرة المنقذ القادر، إذا وعد وفى، لكن لا وعد جدّي منه، ولا جهد، ولا سعد لغاية الآن، بل كلام من نوع “إسمع تفرح، جرّب تحزن”!

قبل اجتماع باريس، حلّ بيننا الفرنسي بيار دوكان، منسّق المساعدات الدولية للبنان، وحدّثنا عن جهد في تأمين الكهرباء من الأردن، والغاز من مصر، وأكد بأنه سينسّق مع نظرائه الأميركيين، وأنه سيتوجّه إلى واشنطن لهذا الغرض، وغادر، من دون أن يحجز موعداً للعودة. السفير دوكان رمز من رموز الاهتمام الفرنسي بلبنان. قبله كان وفد قضائي يتقصّى الحقائق المحيطة بإنفجار المرفأ، فانفجر القضاء بعده، وتصدّع، ولغاية الآن لم تنته محاولات الترميم.

والحديث عن إنفجار المرفأ، يتماهى مع الحديث عن كوابيس كثيرة، حيث زار بيروت في السادس من آب، وبعد مرور يومين فقط على كارثة الإنفجار، الرئيس إيمانول ماكرون، وخلع سترته، وشمّر عن ساعديه في منطقة الجميزة، وسط الحشود المنكوبة، وراح يبعث في النفوس المصدومة بصيص أمل. ثم زار بيروت ثانية في الأول من أيلول حاملاً مبادرة طرحها على القيادات ولاقت استحساناً، لكن بقيت لغاية الآن حبراً على ورق نزيلة قصر الصنوبر. وبعد نيف وسنتين يخرج همس من كواليس دبلوماسيّة عربيّة وأوروبيّة متابعة بدّقة للملف اللبناني: “أي مصداقيّة يبقى لفرنسا في مساعدة لبنان، إذا حملت إليه مبادرة بحجم موقعها في مجلس الأمن، وعلى الساحة الدوليّة، وبشخص رئيسها الرئيس ماكرون، وبقيت عاجزة عن وضعها موضع التنفيذ رغم الموافقات المحليّة عليها؟!”.

وكان الشريك الأميركي متابعاً، ومرحّباً، وفي كلّ مرّة كان يزور فيها ماكرون بيروت، كان يلحق به ديفيد ساترفيلد، أو ديفيد هيل للإطلاع، والإستماع، وتوزيع التقاسيم لضبط الإيقاع، والنتيجة ظاهرة للعيان على وجوه الحلفاء، والأصدقاء من السيادييّن: كثير من الكلام، وكثير من المواقف، وقليل من الفعل، والدليل أن مرشح التحدّي لم يقفز فوق عتبة الـ 40 صوتاً للوصول إلى القصر الجمهوري.

والمثير للإهتمام، والإستغراب في آن، أن السفير دوكان جاء إلى بيروت ليتلو على مسامع اللبنانيين ما سبق أن أعلنته السفيرة الأميركيّة، قبل نيف وعام، عندما وعدت بإستجرار الغاز من مصر، والكهرباء من الأردن، عبر سوريا، للحيلولة دون وصول المازوت الإيراني. وما عجزت عنه السفيرة شيا لدى إدارتها في واشنطن، وعد السفير دوكان بتحقيقه، وقال إنه سيتوجّه الى العاصمة الأميركيّة لإقناعها بتعديل “قانون قيصر” بما يتيح إيصال إمدادات الطاقة بمعزل عن العقوبات!
هل في الأمر إستغباء لعقول اللبنانييّن، أو توزيع أدوار بين الطرفين؟

واضح أن عمليّة توزيع الأدوار قائمة، ليس حول لبنان، بل حول ملفات في غاية الأهميّة على الساحة الإقليميّة والدوليّة، طفت على السطح نتيجة الحرب في أوكرانيا، والتنافس الصيني ـ الأميركي ـ الروسي ـ الإيراني على منابع الطاقة في الخليج، والممرات المائيّة الاستراتيجيّة. ولكن يبقى لبنان مختبراً مهمّاً للمبادرات، والوعود، إنه الجامع المستقطب، والذي يتقن حرفيّة اختبار معادن الدول، ومدى صدقيتها في الالتزام، خصوصاً تلك التي تقدّم ما يلمع، وكأنه ذهب من عيار 24 قيراط!

وبدلاً من البحث عن نجوم الليل في قارعة النهار، لا بدّ من التذكير بما عاد به الوفد النيابي من واشنطن برئاسة نائب رئيس المجلس الياس بوصعب، وذلك قبيل انعقاد الإجتماع الخماسي في باريس، حيث كثر الحديث عن لامبالاة الإدارة الأميركيّة، وكثر الكلام حول ضرورة شدّ الأحزمة، وانتخاب رئيس، وإطلاق عجلة المؤسسات، ومحاربة الفساد، والإنصياع إلى شروط صندوق النقد الدولي للحصول على المساعدات، وأن لبنان ليس أولوية على الأجندة الأميركيّة، على الرغم من الحرص على شعارات الحرية، والسيادة، والاستقلال!

بالمقابل، غاب الإيراني، أو غُيّب، عن اجتماع باريس، لكن وزير الخارجيّة حسين أمير عبد اللهيان، ونائبه علي باقري كني، يجدان متسعاً من الوقت لزيارة بيروت، والتقصّي عن حقيقة ما يجري، ودرس توازنات القوى، وتوجهاتها، وكيف تدار الأمور، رغم كثرة مشاغلهما، والتحديات المفصليّة التي تواجهها إيران في هذه المرحلة من تاريخها.

كما تجد طهران، على الرغم من العقوبات الأميركيّة ـ الغربيّة، متسعاً من الوقت، ومن الإمكانات، لبناء أحدث مجمّع دبلوماسي لها في بيروت، ومتسعاً من الوقت، والإمكانات، لعرض ما يلزم من مساعدات على المسؤولين، من نفط وغاز، ومن إصرار حول إمكانية بناء معملين كبيرين لتوليد الطاقة الكهربائية لكل لبنان وبما يفيض عن احتياجاته، في وقت تدخل فيه الدبابة الأميركيّة إلى العراق لتدمّره تحت شعار نشر الحريّة، والديمقراطيّة، وحقوق الإنسان. وتتدخل في ربيع سوريا فتحوله الى خريف دام، وشتاء مدمّر. وتحوم حول حرب اليمن، لتطيل من شفار الأزمة، وطاحونة المعاناة بغية استنزاف الخليج. وهذا ما دفع ببعض القيادات السياديّة الى السؤال عن المصداقيّة، وصدق الالتزام!