محكمة الحريري تقفل أبوابها: “أنا صار لازم ودّعكم”!

كتبت لينا فخر الدين في “الأخبار”:

طوت المحكمة الخاصة بلبنان أوراقها، بلا نتيجةٍ تذكر. في عامها الأخير، تقوم المحكمة بتصريف الأعمال وإنجاز مهامها المتبقيّة مع 11 موظّفاً بانتظار التجديد النهائي للولاية الأخيرة غير القضائيّة التي تُكلّف نحو 3 ملايين دولار مع تعسّر في تأمين هذه النفقات، خصوصاً أنّ لا مساهمات معلنة ولا تبرّعات متوقّعة لعام 2023.

بعد 13 عاماً على افتتاحها، أعلنت المحكمة الخاصة بلبنان إغلاق أبوابها نهاية هذه السنة. قرار إنشاء المحكمة عقب اغتيال الرئيس رفيق الحريري، والذي أنتج انقساماً عمودياً وفرّخ مشاريع بأجندات دوليّة، انتهى بـ«نفخة هواء».
وكأن شيئاً لم يكن ولن يكون؛ تعتيم إعلامي تام على التقرير الصادر عن الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة في 23 تشرين الثاني الماضي عن «استخدام الإعانة لعام 2022 وطلب تقديم إعانة للمحكمة الخاصة لعام 2023»، والذي استند إلى تقرير صادر عن الأمين العام للأمم المتّحدة يُشير فيه إلى أنّ الأمم المتّحدة وحكومة لبنان اتّفقتا على خطّة إنجاز للمحكمة، وبموجبها يتوقّع أن تؤدي المحكمة مهامهما المتبقيّة المحدودة اعتباراً من 1 تموّز الماضي وحتى نهاية 2023، مع «عصر» للنفقات ومغادرة المبنى المستأجر الخاص بها، والإبقاء على 11 موظفاً فقط.
فعلياً، انتهت المحكمة. هي في مرحلة التصفية، أو بحسب ما وصّفها مسؤولوها «مرحلة تصريف الأعمال المتبقيّة بعد انتهاء أنشطتها القضائيّة»، و«يقتصر هذا التجديد النهائي للولاية على ولاية غير قضائيّة تركّز على إنجاز المهام المتبقيّة غير القضائية».

مع ذلك، لم تتحرّك الرؤوس الحامية التي دافعت عن المحكمة مع كل مخالفاتها القانونية. لم تُرثها ولن تفتقدها أساساً، بعدما انتهى ما كانت تريده منها. وإذا كان داعمو المحكمة أداروا لها الظهر بعد موْتها، فإن خصومها أيضاً لم يُهلّلوا لانتصارٍ ولو وهمي. لم يأتِ أحدٌ على ذكر انتهاء عهد المحكمة. وحده النائب جميل السيّد كان وفياً لمعاركه التي خاضها من داخلها، فنشر «نعياً» لها على صفحته على «تويتر». وهو لم «يكنّ» يوماً، حتى من داخل زنزانته في سجن رومية، إلى أن انتزع اعترافاً رسمياً من المحكمة بأن قضيّة شهود الزور كانت ملفّقة على رغم ضربها لصدقيّة المحكمة، تماماً كما استحصل على 26 صفحة من ضمن الحكم في «قضية عياش وآخرين» (القضيّة الأم) تدعو إلى الاعتذار والتعويض عليه ورفاقه (الضباط مصطفى حمدان وعلي الحاج وريمون عازار).
عليه، يُمكن القول إنّ السيّد ورفاقه هم من تمكّنوا من انتزاع «حق وباطل» من المحكمة. ما عدا ذلك، كانت نتيجة المخاض فأراً. إذ إنّ «إنجاز» المحكمة في الحكم على سليم عيّاش وآخرين في قضيّة اغتيال الحريري ليس أكثر من حبر على ورق. في محكمةٍ سُميت تيّمناً باسمه، كان الحريري الضحيّة الكُبرى؛ لا التحقيقات سلكت طريقها الصحيح نحو «الحقيقة» التي بقيت شعاراتها مرفوعة في شوارع بيروت، حتى يئس الحريريون، ولا الإجراءات القانونيّة كان يُمكن أن توصل إلى النتيجة المرجوّة بالطريقة التي رُسمت لها. هل «الحريريون» واثقون فعلاً أنّ عياش هو من قتل الحريري؟ وهل شفت المحكمة غليلهم؟ بالطبع لا.

هي مجموعة ملفّات طويت أصلاً قبل صدور الحكم في حزيران الماضي، في حين أنّ «قضيّة عيّاش المتلازمة»، أي اغتيال جورج حاوي ومحاولتي اغتيال مروان حمادة والياس المر، تم «اختتام النظر» بها. ويُشير التقرير الأخير الصادر عن الأمم المتحدة إلى أنّه «لا تزال الإجراءات متوقّفة ولم تُخصّص لها موارد في الميزانيّة المنقّحة لعام 2022 أو في ميزانية 2023، وتلاحظ اللجنة الاستشارية لشؤون الإدارة والميزانيّة بقلق وقف النظر في قضية عياش المتلازمة بسب عدم توافر التمويل».

تبرّعت دولة مانحة وحيدة في 2022 بمبلغ 20 ألف دولار أميركي!

هكذا، أُنشئت المحكمة وتم الإجهاز عليها بعد سنوات من «النضال السياسي»، وكأنّها «فص ملح وذاب»، من دون مراسيم عزاء ولا مرثيّات. وحدها الأعباء الماليّة التي تكبّدها لبنان والتي فاقت مليار دولار هي الدليل المادي على وجودها. 900 ألف دولار أصرّت الأمم المتّحدة على «تدفيعها» إلى لبنان في عز ضائقته الماديّة عامي 2020 و2021.

900 ألف دولار ليست شيئاً كبيراً مقارنةً مع الأموال التي رصدتها الحكومات المتعاقبة من جيوب اللبنانيين ومن ودائعهم لمصلحة المحكمة التي لم تؤدِ إلى أي نتيجة فعليّة.
هذه اللانتيجة عرفتها الدول مجتمعة التي «بلّت إيدها» بالمحكمة على مدى سنوات لأهداف سياسيّة، حتى لم تجد المحكمة في عام 2022 إلا متبرعاً واحداً (دولة مانحة واحدة) بمبلغ زهيد لم يصل إلى 20 ألف دولار! وكأن هذه الدول قالت فعلياً كلمتها العام الماضي، وقبل صدور الحكم النهائي، بأن المحكمة انتهت فتبرأ منها الجميع.
وتلفت التقارير الصادرة عن الأمين العام والجمعية العامة واللجنة الاستشارية بشؤون الإدارة والميزانية أن الميزانية المتوقعة لعام 2023 هي 2.97 مليون دولار، في حين أن المحكمة لم تتمكّن من تغطية كامل نفقاتها لعام 2022.
وتؤكّد هذه التقارير التي تحدّثت عن «الصعوبات المالية» التي تواجه المحكمة أنّ «التبرّعات المقدّمة إلى المحكمة بقيت تتراجع على مر السنين؛ حيث انخفضت من 22.7 مليون دولار في عام 2019 إلى 20.5 مليون دولار في عام 2020 و8.1 مليون دولار في عام 2021 ومن المتوقع أن تصل إلى مليون دولار في عام 2022 (…). ولم تكن هناك مساهمات معلنة لعام 2023 ومن غير الواضح ما إذا كانت حكومة لبنان ستستطيع تقديم مساهمة للمحكمة في عام 2023».
كما لاحظت اللجنة الاستشاريّة «بقلق عدم وجود تبرّعات متوقعة لعام 2023 وتوصي الجمعية العامة بأن تُشجّع جميع الدول الأعضاء على تقديم دعم طوعي إلى المحكمة»، معلنةً أنّ «حاجات المحكمة من 1 كانون الثاني إلى 31 كانون الأوّل 2023 تُقدّر بـ2.97 مليون دولار أميركي».

ومن بين حاجات الإنفاق، مليون ونصف المليون دولار لتغطية تكاليف 11 موظفاً (بعد مغادرة 41 موظفاً): رئيس قلم المحكمة، موظف قانوني، موظف إداري، 4 موظفين لتكنولوجيا المعلومات، موظفان لشؤون المحفوظات، موظف غير متفرّغ في مكتب المدّعي العام، موظّف في الغرف لفترة قصيرة… إضافة إلى مليون نصف المليون دولار تقريباً لتغطية تكاليف التعويضات الممنوحة لغير الموظفين والخبراء الاستشاريين والخدمات التعاقديّة ومصروفات التشغيل العام.
إذاً، تشير هذه التقارير إلى أنّ المحكمة ستتحوّل إلى أرشيف، أو كما يمكن تسميتها إلى «محفوظات» ستنقل بحسب الاتفاق مع الدولة اللبنانيّة، إلى الأمم المتحدة بعد أن تم نقل بعضها إلى وكالة المحفوظات الهولنديّة في تموز الماضي. وحتى أنّ هذا النقل، بحسب التقارير الواردة، مُهدّد في حال لم يتم تأمين الأموال، إذ إنّ «عدم تجديد الولاية سيؤثر سلباً في القدرة على تصفية المحكمة على النحو الواجب، (…) وعلاوة على ذلك، فإن أحكام المحكمة لن تكون متاحة باللغتين العربية والفرنسية للسكان اللبنانيين والجمهور على نطاقٍ واسع. ولن تُحفظ سجلّات المحكمة ومحفوظاتها ولا يمكن الوصول إليها ولن يكون هناك موقع شبكي شامل متاح للجمهور، إضافة إلى أنه لا يمكن ضمان التأمين الواجب للمعلومات البالغة الحساسيّة والسريّة التي تقدّمها الدول الأعضاء قبل إغلاق المحكمة».

لماذا «نام» لبنان على طلب استرداد التجهيزات؟
انتهت المحكمة مع كلّ إنتاجاتها المصيريّة الداخليّة والإقليميّة، من دون أي هدف، ولو أنّ التقارير تود أن تُسجّل لها إنجازاً وهمياً بأنّها «محكمة مخصصة تُغلق أبوابها بعد الانتهاء من المهام المتبقيّة».
ومع ذلك، يملك النائب اللواء جميل السيّد مقاربةً لم تلتفت لها الحكومة اللبنانية ممثلةً بوزيري العدل والخارجيّة اللذين لم يُطالبا الأمم المتّحدة باسترداد التجهيزات الخاصة بها والتي من الممكن أن تستفيد منها قصور العدل التي تُعاني من نقصٍ في التجهيزات. علماً أنّ المعنيين سيقومون بنقل هذه التجهيزات إلى المخازن أو بالتخلي عنهم لمصلحة محاكم أُخرى وخصوصاً المحاكم الهولنديّة التي نقلت إليها بعض محفوظات المحكمة الخاصة بلبنان.
يُذكر أن هذه التجهيزات تُقدّر بملايين الدولارات وهي أنظمة مراقبة إلكترونية أمنية متطوّرة، تجهيزات حماية أمنيّة وكشف متفجّرات، قاعات محاكم كاملة، أنظمة هندسات صوتيّة متطوّرة وشاشات وكاميرات… في حين أنّه لن يكون أمام الأمم المتحدة مجال لرفض هذا الطلب لعلمها بحاجة لبنان إليها، وهو الذي دفع أصلاً القسم الأكبر من نفقات شرائها.