كتب خالد ابو شقرا في “نداء الوطن”:
يشي تسارع الأحداث المالية والنقدية، المعزولة عمداً عن الإصلاحات الاقتصادية، بتشريع أبواب جهنم الإنهيار على مصراعيها. فهذه الأبواب التي ظلت مواربة، حياءً أم خوفاً من ردات الفعل، على مدار أعوام الأزمة الماضية، ستُفتح قريباً على وسعها. وأولى بشائرها التناغم الرسمي والعام مع عدم تفليس المصارف، الإرتفاع الهائل في نفقات الدولة، ورفع قيمة السحوبات البنكية من الحسابات الدولارية المسطو عليها بقوة الأمر الواقع إلى 15 ألف ليرة أواسط شباط القادم، وإلى أرقام أعلى في المستقبل القريب.
التطورات الثلاثة عبّر عنها مشهد حاويات الليرات المطبوعة حديثاً، من شائعة أن تكون فئة المليون ليرة من ضمنها، المحمولة على ظهور الشاحنات أمام مصرف لبنان. فالأخير يستعد، على ما يبدو، إلى أوسع عملية ليلرة للإقتصاد في القادم من الأيام. والرقم المهول لحجم الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية تحت الطلب (M1)، المقدر بأكثر من بين 80 ترليون ليرة، قد يصبح “فُراطة” أمام المبالغ التي ستضخ سنوياً في جسم الاقتصاد المهترئ. وستنعكس مزيداً من الإنهيار بقيمة الليرة اللبنانية. وبالتالي بالقدرة الشرائية للرواتب والأجور.
كيف ستوزع الليرات المطبوعة؟
على صعيد المالية العامة، تحتاج الدولة نظرياً إلى 10 آلاف مليار ليرة من أجل تغطية العجز في موازنة 2022. حيث قدرت النفقات بحوالى 41 ألف مليار ليرة، فيما لم تتجاوز الإيرادات 30 ألف مليار. إلا أنه في الواقع فان نفقات الدولة ستتجاوز هذا الرقم بأشواط. خصوصاً إذا أخذنا في الاعتبار السلفات، ومنها للكهرباء، ووصول كلفة الرواتب والأجور الحقيقية إلى 3300 مليار ليرة شهرياً. في المقابل ستتدنى الإيرادات عن 30 ألف مليار ليرة، وقد لا يحقق الدولار الجمركي الرقم المأمول والمقدر بـ 1400 مليار ليرة شهرياً، أو ما يعادل 17 ألف مليار ليرة سنوياً. وعليه فان مجمل الإيرادات قد لا تتجاوز 20 ألف مليار ليرة للعديد من الأسباب؛ أهمها: ارتفاع وتيرة التهريب من المعابر الشرعية وغير الشرعية، التهرب الضريبي، تراجع الاستهلاك، إمكانية طعن المجلس الدستوري ببنود في الموازنة، وتحديداً في ما يتعلق بالضرائب على الأجور بالدولار، استمرار الإضرابات في الإدارة العامة… كل هذه العوامل ستجعل مصرف لبنان مضطراً إلى تغطية الفرق من الأموال المطبوعة.
المصارف بالمرصاد لجملة حلول
إحتياجات الدولة من الأموال المطبوعة قد تبدو نزهة صيفية أمام ما سيضخ في الاقتصاد من ليرات في حال عدم إعادة هيكلة القطاع المصرفي، أو حتى في حال السير بطروحات المصارف لجهة تسديد الودائع بالعملة الوطنية. وللتخلص من هذا الضغط “يجب حل مشكلة الودائع، أو ما أصبح يعرف تقنياً بتوزيع الخسائر، بطرق علمية وعملية”، يقول الخبير المصرفي جان رياشي، و”قد خرجت مؤخراً حلول من مسؤولين حكوميين معنيين لا تعارض تسديد المصارف لغاية 100 ألف دولار بالدولار من أموالها للمودعين. أمّا المبالغ المتبقية فوق هذا السقف فتحول إلى أصول غير نقدية لتخفف الضغط على الليرة. كأن تحول إلى أسهم أو سندات في صناديق منشأة للغاية، صندوق استرداد الودائع مثلاً. وهم يأملون بايجاد حل وسطي مع صندوق النقد الدولي للموافقة على هذا الطرح، بشكل ألا يؤثر بشكل كبير على موارد الدولة المستقبلية من جهة، ويشكّل تعويضاً ما، لأصحاب الودائع فوق 100 ألف دولار من جهة أخرى”. فهذه الودائع برأي رياشي “لم يعد بالإمكان تسييلها. ومن المفترض أن تتحول إلى أدوات طويلة الامد غير مالية”. إلا أن المشكلة برأيه “حتى هذا الطرح لن يبصر النور على الأرجح، وستبقى الامور كما هي عليه اليوم لأن هناك من يستفيد. فغالبية المصارف لا تستطيع حتى تأمين الودائع لغاية 100 ألف دولار، وهي تعترض أصلاً على إقرار قانون “الكابيتال كونترول” الذي يجيز السحب لغاية 1000 دولار شهرياً”. وفي جميع الحالات يرى رياشي أن “المهم في أي خطة أن تخرج هذه الكتلة النقدية المقدرة بأكثر من 72 مليار دولار من الكتلة النقدية المستقبلية”.
السحوبات البنكية وسياسة “المركزي” المرحلية
عنصر آخر سيشكل ابتداء من أواسط شباط القادم سبباً إضافياً لانفلاش الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية، ويتمثل برفع سقف السحوبات بحسب التعميم 151، من 8000 ليرة إلى 15 ألف ليرة. وعلى الرغم من إمكانية خفض سقف السحوبات بمقدار النصف للمحافظة على نفس كمية الليرات المدفوعة، فان التضخم والتوقع باستمرار الاسعار بالارتفاع سيؤديان إلى زيادة سقف السحوبات ولو بنسبة أقل من السقف المعتمد حالياً. إلا أنه في جميع الحالات فان “رَفع الدّولار المَصرفي إلى 15 ألف ليرة ليرة ابتداءً من شباط المُقبِل سيضع المَزيد من الضَّغط على الليرة المُتهاوية، على الرُّغمِ مِن محاولات الحَدّ مِن وَقعِ مأساتها عبر التدابير والبيانات”، يقول الكاتب والباحث في الشؤون الماليَّة والاقتصاديَّة البروفسور مارون خاطر. “وكما توقَّعنا وشدَّدنا في دراسات سابقة، لن تتمكَّن الدولة من تأمين الإيرادات عبر زيادة الضرائب من تأمين حاجات الاقتصاد من النَّقد. مما يجعل من الطَّبع أمراً واقعاً ومستداماً منذ بداية الأزمة وإلى اليوم.
ويشير خاطر في هذا الإطار إلى أن تدابير مصرف لبنان الأخيرة، وهي تَبدو وكأنَّها تَهدف حصراً إلى خفض سعر الصَّرف، تُشكّل خطوة استباقيةً للحد من الحاجة لزيادة الكتلة النقدية عبر الطبع، ومن التضخم الذي سَتُحدثه هذه الزيادة من جهة، ولتقليص خسائره من جهة ثانية”. عملياً، يَعمَد المصرف المركزي الى تدوير الكتلة النَّقديَّة، مستعملاً مِنصَّة صيرفة لخفض الكتلة النقدية بالليرة ليعود ويضخها رواتب مضاعفة ممَّا يُقلص حاجته لزيادة الكتلة النقدية عبر ضخ العملة الحديثة الطبع. يُساعد خَفض هامش الفرق بين سِعر منصَّة صيرفة وسِعر السوق الموازية بالحَدّ من الخسائر التي يتكبَّدها كنتيجة لتدخله على سوق القطع، مما يسمح له شراء المزيد من الوقت”. في سياق متصل، يرى خاطر أن مصرف لبنان يستفيد من عدم وجود “مُضاعِف الائتمان” الناتج عن غياب التسليف للتخفيف من الآثار التضخمية لتدخله على سوق القطع ضخاً وطبعاً. وعليه، قَد يَنجح المصرف المركزي من خلال تدخله “المحدود” بفرملة أو تأخير ارتفاع سعر الصرف، وقد تعاونه في ذلك المصارف في منحاه عبر تمرُّدها على قراراته وخفضها سقوف السحوبات. إلا أن مجمل ما تقدم لا يُشكل حلولاً، بل معالجات موضعية قَد تَسمح بتمديد الوقت المُستقطع الذي قد يَفصِل بين الأزمة والحَلّ، أو بينها وبين الإنهيار الشامل!
الخروج من دوامة الطباعة
بالإضافة إلى الاصلاحات الهيكلية في بنية الإقتصاد، ولا سيما في ما يتعلق بالقطاع العام والكهرباء، فان “هناك أموراً صغيرة يمكن أن تحدث فرقاً كبيراً”، من وجهة نظر رياشي. و”منها على سبيل المثال إقرار قانون يضمن إعادة الأموال المقرضة بقيمتها الحقيقية. فهناك بعض المصارف والشركات المالية لديها سيولة يمكن إقراضها للأفراد والشركات للمساهمة في تفعيل دورة الاستثمار وإعادة تنشيط الحركة، إنما لا أحد يجرؤ على ذلك بسبب غياب الضمانات. فالقانون الحالي لا يحمي الدائن، ولا شيء يضمن عدم إرجاع الأموال بالليرة أو بالشيك المصرفي أو عبر العرض والايداع لدى الكاتب العدل. وكل ما يتطلبه الأمر إقرار قانون من 3 أسطر يضمن إرجاع الدين بقيمته الحقيقية.
في الطباعة ربح؟!
خلافاً لكل النظريات التي تحاول الإيحاء أن مصرف لبنان يطبع الأموال مكرهاً نتيجة كلفتها الكبيرة التي تصل إلى حدود 60 دولاراً لكل 1000 ورقة عملة مطبوعة، فان هذه الطباعة تمثل ربحاً له. فرسوم سك العملة Seigniorage، أي الفرق بين القيمة الاسمية لأوراق العملة وتكاليف الطباعة، تُساوي تقريباً القيمة الاسمية للأوراق. لذا تعتبر الطباعة الورقية للعملة هو نشاط مربح للغاية ومصدر دخل مناسب للمصرف المركزي. وللمثال فان طباعة 1000 ورقة من فئة 100 ألف ليرة، تعني عملياً طباعة 100 مليون ليرة. تكلف المركزي 60 دولاراً أو 90 ألف ليرة على أساس سعر الصرف الرسمي في ميزانيته 1500 ليرة، فيما يسجل الفرق أي 99.9 مليون ليرة في خانة الأصول.
ما يعني أن طباعة 1000 ورقة من فئة 100 ألف ليرة تُطفئ مطلوبات بقيمة 66 ألف دولار. هذه العملية تبقى محض دفترية بحسب خبير المحاسبة المجاز الأستاذ جعفر سلامة. و»هي تسجل إلى جانب الخسائر المحققة نتيجة الفرق في شراء الدولار بين سعر صيرفة (38 ألف ليرة مؤخراً) وسعر السوق الموازية (42500 ليرة يوم أمس)، في خانة «أصول أخرى». ومن الناحية النظرية تظهر ميزانية مصرف لبنان أنها متضخمة بالأصول، لكن في الحقيقة فان هذه الاصول وهمية. وهي تمثل خسائر مخبأة في الميزانية، وليس ربحاً، ويجب أن تتصفى في الخسائر».
وبحسب سلامة «إذا كان الهدف من الأموال المطبوعة هو ضخها في السوق وليس الاحتفاظ بها أو استبدالها بالعملات المهترئة والتالفة، فان نتيجتها ستكون عكسية ولن يحقق أرباحاً منها، لانها ستسبب تضخماً. كما أنه في المقابل فان «المركزي» يعمد إلى امتصاص فائض الليرات من خلال منصة صيرفة والتعميم 161». وقد دفع منذ تاريخ 27 كانون الاول الفائت ولغاية أمس نحو 608 ملايين دولار، وامتص مقابلها حوالى 23 ألف مليار ليرة. وعليه فان من المفترض أن يكون أشبع بالليرات أقلة للفترة القليلة المقبلة.