ضغوط وعقوبات قريباً لفتح أبواب التسوية

كتب جوني منيّر في “الجمهورية”:

كان العراق محقاً عندما سعى لتأجيل انعقاد مؤتمر بغداد الثاني في الاردن لبعض الوقت. وعلّل العراق اقتراحه بأنّ ايران صاحبة الدور الأكبر والأفعل، تمر وسط ظروف داخلية وخارجية دقيقة، ما يجعلها غير مستعدة فعلياً لتقديم ما يلزم لإنجاح المؤتمر.

وظهرت إشارات ايرانية تدعم المخاوف العراقية، فوزير الخارجية الايرانية امير عبد اللهيان انتظر حتى اللحظات الاخيرة ليعلن مشاركته في اعمال المؤتمر. واستبق قراره باشتراطه معرفة مضمون البيان النهائي للمؤتمر، وأن لا يتضمن أي بنود تثير حساسية ايران.

كذلك، فإنّ التوقعات التي راجت حيال مشاركة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان عادت وتبدّدت، مع اعلان السعودية عن مشاركتها على مستوى وزير الخارجية.

لكن المؤتمر انعقد في موعده بناءً على إصرار الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، الذي يسعى لمأسسة مؤتمر بغداد وجعله مؤتمراً سنوياً يُعقد في الموعد نفسه.

قد يكون الدرس الناتج من اسباب تبدّد الآمال الكبيرة التي كانت تعوّل على المؤتمر، هو أنّه كان يجب البدء من مكان آخر، والمقصود هنا الحرب الدائرة في اوكرانيا ومن ثم الاتفاق النووي.

فبعد تحضيرات سرّية، فاجأت واشنطن العالم بخبر استقبالها الرئيس الاوكراني فولوديمير زيلنسكي، في اول زيارة خارجية له منذ اندلاع الحرب.

من الخطأ الاعتقاد أنّ هذه الزيارة المفاجئة تأتي في اطار التنسيق والتواصل العادي بين حليفين، لا شك في أنّ هنالك ما هو اكبر من العنوان التنسيقي. فالخبير الاميركي الأبرز في السياسة الخارجية هنري كيسنجر كتب قائلا «إنّ الوقت يقترب من ضرورة وقف الحرب في اوكرانيا والاستعداد للذهاب الى طاولة المفاوضات».

وإذا كان صحيحاً أنّ البيت الابيض يستعين بين حين وآخر بـ «نصائح» ثعلب السياسة الخارجية الاميركية كيسنجر، فهذا يعني أنّ واشنطن ستباشر التحضير للذهاب إلى المفاوضات. صحيح انّ الادارة الاميركية ستقرّ دفعة جديدة من الدعم العسكري لأوكرانيا طابعها دفاعي وقد تتضمن بطاريات صواريخ ارض ـ جو من نوع «باتريوت»، الّا انّ ذلك يأتي في اطار الحفاظ على الموقع العسكري المتقدّم لأوكرانيا في مواجهة روسيا، بعد ان اثبتت نفسها، ولكنه لن يلغي قرار التحضير لدخول قاعة التفاوض.

فالشارع الاميركي بدأ يسجّل تراجعاً في اهتماماته بأوكرانيا، ما يعني انّه بدأ يرسل إشارات التعب الاولية. ونُقل عن وزير الخارجية الاميركي انتوني بلينكن قوله، إنّ أي تراجع اضافي لروسيا من دونباس وشبه جزيرة القرم سيكون على اوكرانيا تحقيقه في غرفة المفاوضات مع روسيا.

وبالتالي، فإنّ الادارة الاميركية تحضّر المسرح لوقف الحرب والذهاب الى قاعة المفاوضات. ولم يعد خافياً أنّ القمة الاميركية ـ الفرنسية، والتي عقدت مطلع الشهر، خرج منها ماكرون وهو يلوّح باقتراب موعد المفاوضات حول الحرب الدائرة في اوكرانيا. وتتسلّح ادارة بايدن في معرض إقناعها لزيلنسكي باستبدال جبهات القتال بقاعات التفاوض بالحكمة السياسية الأبرز والتي تقول: «لو كانت حكومات الدول المتحاربة تعرف في حينه ما ستؤول اليه نتائج قراراتها لاحقاً، لكانت قرّرت بنحو مختلف».

وهذه الحكمة السياسية كان قد جرى استخلاصها من نتائج الحرب العالمية الثانية، وقرار ادولف هتلر بخوض غمارها.

والمقصود هنا، انّ على زيلنسكي اقتناص فرصة وقف الحرب والذهاب الى المفاوضات في اللحظة الصحيحة، بدل الانزلاق في مسار مواجهات عسكرية تبدو مغرية الآن، ولكنها ستصبح كارثية مع الوقت.

ولكن ما علاقة الحرب الاوكرانية بالشرق الاوسط؟

في الواقع، العلاقة كبيرة وعميقة. فمع اندلاع الحرب الاوكرانية والتعثر العسكري الذي لاحق الجيش الروسي، تمّ تعزيز التقاطعات ما بين موسكو وطهران، وهو ما أنتج تعاوناً اكبر خصوصاً على المستوى العسكري. وفي مقابل توريد الطائرات المسيّرة الايرانية إلى روسيا والتي اثبتت قدراتها، تقوم روسيا بتزويد ايران معدات عسكرية متطورة.

وفي الوقت نفسه وجدت دول الخليج سبيلاً لإزعاج إدارة بايدن من خلال رفع اسعار النفط، وهو ما تستفيد منه روسيا لتعزيز تمويلها للحرب، رغم العداوة الخليجية ـ الايرانية.

وفي الوقت نفسه، تبدو واشنطن راضية عن قطع الروابط النفطية بين روسيا وايران نتيجة الحرب، حيث اصبحت خطوط إمداد الاقتصاد الاوروبي بالغاز من اماكن اخرى غير روسيا. ما يحرّر القرار الاوروبي لمصلحة السياسة الاميركية عند المفترقات الصعبة في السياسة العالمية. وهو ما يعني انّ النتائج المطلوبة نضجت، وبات الوقت يلزم بعدم رمي ايران كلياً في احضان روسيا، من خلال وقف الحرب الاوكرانية وتحرير الاتفاق النووي.

وفي المقابل، فإنّ ظروف ايران تلزمها بالذهاب الى الاتفاق بأسرع وقت، ما يسمح لها بتحرير أرصدتها المالية المجمّدة، وهو ما سيساعدها في اعادة استيعاب شارعها المضطرب منذ نحو اربعة اشهر، ما يدفعها إلى التفرغ لمعالجة الأزمة في العمق.

وثمة إشارات واعدة في هذا المجال، الاشارة الايرانية الاولى جاءت بالسماح لمفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية برئاسة نائب مديرها العام، بزيارة طهران، بعد توقف دام اشهراً عدة. وهذا ما عزّز الانطباع بوجود رأي راجح داخل القيادة الايرانية يميل الى إنجاز الاتفاق.

والاشارة الثانية، جاءت مع لقاء وزير الخارجية الايرانية بنظيره في الاتحاد الاوروبي جوزيب بوريل على هامش اعمال مؤتمر عمان. وغالب الظن انّ مشاركة ايران في المؤتمر على مستوى وزير خارجيتها، انما جاء لتأمين حصول هذا الاجتماع. ووصف عبد اللهيان اجتماع عمان بأنّه يشكّل فرصة لتحريك المحادثات المتعثرة حول الاتفاق النووي، كما وصف اجتماعه ببوريل بالايجابي.

والاشارة الثالثة، ترتكز على معلومات موجودة لدى العواصم المعنية، مفادها أنّ الرئيس الايراني ابراهيم رئيسي مقتنع بالحاجة إلى احياء الصفقة النووية.

ولذلك تتوقع اوساط اوروبية معنية اعادة الدفع وبنحو سريع في اتجاه انجاز الاتفاق النووي بحلول شباط المقبل، او آذار في أبعد القديرات.

ولذلك دخل معارضو الاتفاق وعلى رأسهم اسرائيل، حيث تمّ تسريب شريط مصور للرئيس الاميركي يعلن فيه «موت» الاتفاق، في سعي للجم اندفاعة بايدن.

ومع شيء من التدقيق، يُلاحظ أنّ كلام بايدن قديم بعض الشيء، ويعود الى مطلع تشرين الثاني الماضي، والأهم انّه جاء في عزّ احتدام الحملات الانتخابية النصفية، وايضاً في اطار حوار مع إحدى السيدات خلال جولة انتخابية وليس في اطار الاعلان عن موقف رسمي وحاسم.

وتضيف المعلومات، أنّ الرئيسين الاميركي والفرنسي كانا قد اتفقا خلال القمة التي جمعتهما على وضع خطة للعودة الى تحريك مفاوضات في شأن الاتفاق النووي وانجاز توقيعه خلال شهرين او ثلاثة اشهر على ابعد تقدير، وفي مسار موازٍ للعمل على وقف إطلاق النار في اوكرانيا.

من هنا الاهتمام الغربي الكبير بحادثة الاعتداء على عناصر من قوى «اليونيفيل» في العاقبية جنوب لبنان، وما إذا كان هنالك من فريق ايراني يوجّه رسالة اعتراض رفضاً للذهاب الى إعادة إحياء الاتفاق.

وفي وقت يستعد وزيرا خارجية ايطاليا واسبانيا لزيارة قوات «اليونيفيل» كل منهما في زيارة مستقلة، ستعمل باريس بالتفاهم مع واشنطن على رفع مستوى الضغوط الدولية لإتمام الاستحقاق الرئاسي ولجم معارضيه، وسيزور وزير التسليح الفرنسي بيروت مطلع السنة المقبلة.

وثمة افكار عدة مطروحة على بساط البحث، كمثل رعاية الامم المتحدة لمؤتمر متعدد الجنسيات للبحث في الأزمة اللبنانية، اضافة الى استعادة سلاح العقوبات، والذي سيكون مؤذياً هذه المرة اكثر من السابق، مع وضع لائحة بأسماء شخصيات من الصف الاول.

وفي هذا الاطار، رفع رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الاميركي السيناتور روبرت مينينديز، وهو ديموقراطي، والسيناتور الجمهوري جيمس ريتش، توصية مشتركة عاجلة إلى وزيري الخارجية والخزانة الاميركيين في 16 من الشهر الجاري، طالبا فيها حكومة بلادهما بالقيام بالخطوات العاجلة والحاسمة لإنقاذ لبنان من الفساد والأزمات التي تخنقه. وتمّ في التوصية التذكير بالعقوبات التي طاولت النائب جبران باسيل، اضافة إلى جهاد العرب وداني خوري وغيرهم، في اطار محاربة الفساد.

واعتبرا انّ الوقت قد حان لإنزال عقوبات جديدة بحق اشخاص من النخب الاقتصادية والسياسية المتورطة في أعمال الفساد وعرقلة عجلة القضاء.

وفيما اعتُبرت الرسالة كدلالة على توافق وتفاهم بين الحزبين»الديموقراطي» و»الجمهوري»، فإنّها دعت الى إصدار عقوبات مشتركة اميركية ـ اوروبية، تكون حازمة وقوية.

وجدّدت الرسالة الدعم للجيش اللبناني والقوى الامنية، والعمل الدائم مع الجهات المعنية لتقديم الدعم اللازم لها للدفاع عن سيادة لبنان واستقلاله.

والرأي الغالب دولياً هو أنّه يجب الاستفادة من اي تقدّم قد يحصل على مستوى الملف النووي الايراني، من اجل الدفع بقوة لإمرار الاستحقاق الرئاسي اللبناني، الى جانب إنجاز تفاهمات مطلوبة تؤمّن استقراراً لبنانياً داخلياً طويل الامد، وخروج لبنان من ازمته الاقتصادية والمالية والتي ستزداد شدة خلال الاسابيع المقبلة.

وهذا ما قد يحقق «النبوءة» الموجودة في المحافل الدولية، من أنّ عام 2023 سيشهد تطورات اساسية وايجابية ستصبّ في مصلحة استعادة لبنان استقراره وإعادة بناء اقتصاده ومؤسساته وسلطاته الشرعية والدستورية.