/ جورج علم /
دخل الأميركي دايفيد هيل على السياسييّن، فوجدهم منهمكين بالإستحقاق الرئاسي. يعرف الرجل لبنان جيداً. عمل سفيراً في بيروت، قبل ان يصبح مساعداً لوزير الخارجيّة السابق، ثم مديراً لمركز ويلسون للدراسات في واشنطن. يعرف غالبيّة السياسييّن عن ظهر قلب. إنه كاتم أسرارهم، ويملك ما يكفي من المعلومات عن أصلهم، وفصلهم، السياسي والوطني، وليس بحاجة لا إلى مساعد، ولا إلى ترجمان.
إستضاف مطلع تشرين الثاني الماضي، مساعدة وزير الخارجيّة الأميركي لشؤون الشرق الأدنى بربارا ليف، في لقاء نظّمه مركز ويلسون عن السياسة الأميركيّة في لبنان، وأداره هو شخصياً. أكدت السيدة ليف، خلال اللقاء “أن لبنان مفتوح أمام كل السيناريوهات، بما فيها تفكك كامل للدولة، وأن اللبنانييّن سيضطرون على الأرجح لتحمّل المزيد من الألم قبل تشكيل حكومة جديدة، وقد تفقد قوى الأمن والجيش السيطرة، وتكون هناك هجرة جماعيّة، وهناك العديد من السيناريوهات الكارثيّة، وفي الوقت نفسه أتخيل أن البرلمانيين أنفسهم سيحزمون حقائبهم ويسافرون إلى أوروبا حيث ممتلكاتهم”.
مرّ شهر على هذا الكلام، قبل أن يصل إلى بيروت في زيارة إستطلاعيّة. يريد أن يعرف، ويتحقق من مدى مطابقة الوقائع السياسيّة مع مواصفات السيناريوهات الكارثيّة التي تحدثت عنها السيدة ليف قبل شهر.
تزامن وصوله مع حديث عالي النبرة حول عناوين جهنميّة، من مطالعها كلام عن تفكك الدولة والمؤسسات. وعن جلسة لمجلس الوزراء يعتبرها البعض غير شرعيّة، وغير دستوريّة، وغير ميثاقيّة. وعن لامركزيات يُراد فرضها على أرض الواقع. وعن تشكيل ميليشيات مسلحة في بعض المناطق تحت شعار “الأمن الذاتي”. وعن مشاريع تهدف إلى توفير “الإكتفاء الذاتي”: من التيار الكهربائي، إلى المياه، والخدمات، والبنى التحتيّة، وجباية الرسوم، والضرائب… لتسيير الأمور الحياتية للمواطنين في مناطق طحنتها المعاناة!
وتزامن وصوله مع محاولتين لتشغيل محرّكات الحوار: الأولى، تتولاّها بكركي. والثانيّة، يتولاّها الرئيس نبيه برّي. والمعضلة أن المحاولتين تحتاجان إلى ورقة عمل، إلى تفاهمات مسبقة حول العناوين، في ظلّ تباين واضح حول الأولويات: الرئيس أولاً، أو التسوية الكبرى التي تأتي برئيس؟ البيضة أولاً، أو الدجاجة؟! فيما الفراغ يتّسع، ويتعمّق، ويبقى العجز سمة المرحلة، لسببين:
الأول، إن التركة قد أصبحت أكبر من أصحابها، والأزمة أقوى من مفتعليها، ولا قدرة لهم على معالجتها.
الثاني، إن الغالبية تعتقد، وتعلن، بأن إنتخاب الرئيس من دون تسوية شاملة، لن يحلّ الأزمة. هناك بلد مشلّع، ومؤسسات منهارة، وفساد يعمّ الأرجاء، وطبقة سياسيّة أعدمت البلاد، وتتحكّم برقاب العباد، وتحاول التنصل، وتسعى إلى الإستمراريّة عن طريق شدّ العصب الطائفي، والفئوي، والدليل أن الكلّ ينادي بالحوار، ويدعو إليه، فيما كلّ يريده وفق مصالحه، وأهوائه. وبالمناسبة، يقول شيخ كسرواني خبرته الأيام: “إن الحوار الذي يدعون إليه، أشبه بسرب الغربان الذي يلتف حول الضحية لينهشها، لا ليساعدها على النهوض!”.
عقدة الحوار، أن لبنان تحوّل إلى رميم، فيما الساعون إليه يريدون التفاهم على الطربوش!
وعقدة الحوار عدم وجود قناعة، وقدرة، وإمكانية للتفاهم حول طبيعته، هل هو ثنائي، أم جامع؟ هل هو حول مواصفات الرئيس، أم مواصفات النظام؟ وعقدته تكمن في غياب براءة الذمة. المطلوب براءة ذمّة تخوّل المتهم أن يصبح حكماً، والمرتكب قاضيّاً يصدر الأحكام.
وبراءة الذمّة هذه يجب استصدارها من وجع الناس. من محكمة الرأي العام. من الضحايا التي غرفها بحر الفاقة والجوع، ومن الهجرة التي استنزفت خيرة الشباب والأدمغة، ومن المودعين الذين نهبت أموالهم، وجنى عمرهم، ومن مؤسسات أصبحت في خبر كان.
- ماذا جاء يفعل هيل؟
- الجواب عنده، وهو الأولى بالمعروف في التكلّم أو التكتم، وفي الحالتين فإن جانباً من المهمة التي جاء من أجلها قد تحققت، وعاين عن قرب، ومن خلال اجتماعاته واتصالاته، أن لبنان سالك، وبخطى واثقة، نحو السيناريوهات الكارثيّة التي تحدثت عنها السيدة بربارا ليف، طالما أن وكر دبابير لا ينتج حواراً، وإن حصل، فالتوافق مستبعد، إلاّ إذا حلّ الوحي، وصدرت كلمة السر عن الجهات الخارجية النافذة، وصاحبة المصلحة. وإن رئيساً صنع في لبنان، يبقى من سابع المستحيلات، ومجرّد أضغاث أحلام، طالما أن التباين في وجهات النظر لا يقتصر حول مواصفات الطربوش، ومقاييسه؟ بل حول الهامة التي ستعتمره، وقد تحوّل الوطن إلى رماد؟
لقد طاف هيل على المسؤولين والقيادات، من دون مشاركة السفيرة الأميركيّة، وهذا دليل على أن لا صفة رسميّة له، ولا طابع رسميّاً للزيارة، وبالتالي هو أتى كرئيس لمركز دراسات، يطمح لأن يغني تقاريره بمعلومات مدققة، منتزعة مباشرة من مصادرها. إلاّ أن بعض من التقاهم يصرّ على وصف زيارته بـ”بابا نويل” وفد باكراً في جولة استطلاعيّة سريعة لتفقد أحوال الرعيّة، وأن العديد من أصحاب “القبعات الحمر” في طريقهم إلى بيروت، قبل نهاية العام، ومطلع العام المقبل، بهدف إحداث دينامية فاعلة مغايرة لتلك المعتمدة لغاية الآن، حتى لا يقع لبنان في دائرة الخطر الشديد نتيجة العجز، والفوضى، و”صراع الديوك”.
يبقى أن الكلّ ينتظر “بابا نويل”، يأتي مكتنزاً من عاصمة ما، حاملاً كيسا من الهدايا، عسى ألاّ تكون من “المفرقعات”… عسى أن تكون بحجم مبادرة إنقاذية توافق عرّابوها على العناوين والتفاصيل، وأيضاً على تحديد الساعة صفر، وصفّارة الانطلاق!