حسين ابراهيم
على رغم الرسائل الواضحة التي حملها الترحيب الفاخر بالرئيس الصيني، شي جين بينغ، في الرياض، والذي أُعدّ خصّيصاً، ومنذ وقت طويل، ليناقِض الاستقبال الباهت الذي لَقِيه الرئيس الأميركي، جو بايدن، في جدة، في تموز الماضي، إلّا أن أيّ نقلة كبرى في العلاقات الصينية – السعودية، من النوع الذي يُخرج الأميركيين عن طورهم، لم يَجرِ تسجيلها واقعاً، على رغم ثبوت تنامي تلك العلاقات، وسلوكها مساراً تصاعدياً. ومع ذلك، فإن تأرجح أسعار النفط في منطقة مريحة نسبياً لواشنطن، ربّما يؤشّر إلى استمرار سريان الاتفاق الذي قيل إنه جرى التوصّل إليه سرّاً، ويقضي بمنح وليّ العهد السعودي، محمد بن سلمان، حصانة قضائية في الولايات المتحدة، مقابل خفْض سعر الخام
بمعزل عمّا يمكن أن تصل إليه زيارة الرئيس الصيني، شي جين بينغ، إلى السعودية، وما إذا كان من المبالغة القول إنها تشكّل نقطة تحوّل في موقع هذه المنطقة النفطية من التحالفات العالمية أم لا، فإنها تمثّل حدثاً كبيراً بحدّ ذاتها، لا في سياق ما صار يُعرف حالياً بالصراع بين الإدارة الأميركية وبين النظام السعودي فحسب، وإنّما أيضاً في سياق تعزيز بكين حضورها في مزيد من المناطق التي كانت حكراً على الأميركيين حتى وقت قريب. ففي تعليقها على زيارة الثلاثة أيام التي شملت ثلاث قِمَم للرئيس الصيني مع القيادة السعودية وقادة دول الخليج والقادة العرب، قالت الولايات المتحدة إنها مدركةٌ محاولات الصين توسيع نفوذها في العالم. ومع ذلك، لم يجرِ، أقلّه خلال القِمم الثلاث، الإعلان عن أيّ أمر بالغ الاستفزاز للأميركيين، من نوع مبيعات أسلحة حسّاسة محسومة أو مشاركة صينية مثبتة في بناء معامل للصواريخ الباليستية أو الطائرات المسيّرة أو الطاقة النووية في السعودية (على رغم أن ثمّة شكوكاً أميركية في وجود مِثل هذا التعاون)، أو اعتماد اليوان جزئياً أو كلّياً في مبيعات النفط السعودية لبكين، والتي تبلغ 1.8 مليون برميل يومياً، أي ما يعادل ربع الاستهلاك الصيني.
وإذا كان يمكن الحديث عن موضوع حسّاس في الاتفاقات الصينية – السعودية، فهو الاتفاق بين المملكة وشركة «هواوي»، الذي يشمل الحوسبة السحابية وبناء مجمعات ذات تكنولوجيا عالية في المدن السعودية. وهذا يأتي على خلفية تحذيرات أمنية أميركية من أن التجهيزات الصينية، مِن مِثل التي تُصنّعها «هواوي»، يمكن استخدامها للتداخل مع شبكات الجيل الخامس اللاسلكية والحصول على معلومات حسّاسة. ومع ذلك، ساهمت الشركة الصينية في بناء شبكات الجيل الخامس في معظم الدول الخليجية. أمّا تطور الشراكة التجارية بين الصين من جهة، والسعودية ودول الخليج والدول العربية عموماً من جهة أخرى، فتفرضه الحاجات المتبادلة للأطراف، وهي ضخمة أصلاً وليست بحاجة إلى زيارات لإثباتها، وإن كانت إمكانات تعظيمها موجودة، خاصة وأن خزائن الخليج فاضت خلال السنتَين الماضيتَين بالسيولة التي تبحث عن فرص للاستثمار بعد ارتفاع أسعار النفط. وللمقارنة، بلغت قيمة الاتفاقات الصينية – السعودية، خلال الزيارة الحالية، 30 مليار دولار، بينما وُقّعت اتّفاقات خلال زيارة الملك سلمان إلى الصين عام 2017 بقيمة 65 مليار دولار، علماً أنه آنذاك كان دونالد ترامب لا يزال في السلطة، والعلاقات الأميركية – السعودية أفضل كثيراً ممّا هي عليه اليوم.
للصين وتيرتها الخاصة في توسيع النفوذ يحدّدها تنافسها مع الولايات المتحدة، وليس الرغبات السعودية
بالتأكيد، يسعى السعوديون إلى تعظيم المردود السياسي لهذه الزيارة التي طبّلوا وزمّروا لها طويلاً، لتوجيه رسالة مباشرة إلى الأميركيين في زمن الخلاف الكبير معهم، وتحديداً مع الإدارة الديموقراطية الحالية، بأن التحالفات البديلة موجودة إن هم قرّروا سحْب الضمانة الأمنية التي ما زالوا يوفّرونها للنظام السعودي وإخوته في الخليج. لكن المشكلة الحقيقية بالنسبة إلى السعودية، بَعد الزيارة كما قَبلها، تبقى في تراجع مكانتها ومكانة الشرق الأوسط عموماً في التفكير الاستراتيجي الأميركي، لأسباب عدّة، من بين أبرزها اثنان: أوّلهما، انتهاء الحرب الباردة، والدليل الإضافي على ذلك هو تراجع أهمية تركيا أيضاً بالنسبة إلى الأميركيين؛ وثانيهما، هو تطوّر صناعة النفط الأميركية التي جعلت من الولايات المتحدة مصدّراً صافياً للسلعة، بحيث لم يَعُد خوفها يتمثّل في فقدانها، وإنّما في تقلّب أسعارها واحتمال تعرقل تدفّقها إلى الأسواق العالمية، نظراً إلى الترابط بين الاقتصادات العالمية، وفق الصيغة التي تناسب الهيمنة الأميركية.
وفي المقابل، للصين وتيرتها الخاصة في توسيع النفوذ، يحدّدها تنافسها مع الولايات المتحدة، أكثر ممّا هو الرغبات السعودية أو الخليجية. ولعلّ هذه الحقيقة هي ما يدفع إلى الظنّ بوجود مردود صيني اقتصادي وسياسي مضمون للزيارة، التي دقّقت بكين في كلّ تفاصيل ترتيباتها، ولم تعلن عنها إلّا قبل ساعات قليلة على موعد وصول شي، بعد أن تجاهلت على مدى أشهر تصريحات كبار المسؤولين السعوديين المباشرة حولها، أو التسريبات إلى صحف أميركية وبريطانية، ولولا ذلك المردود لاستمرّ التردّد الصيني أو لأُلغيت الزيارة من أساسها. وبالتالي، فالحديث الرئيس، هنا، يدور حول صراع صيني – أميركي، يمثّل ابن سلمان أحد أحصنته الذي يمكنه أن «يحرَن» من هذا الطرف أو ذاك، ويشوّش حساباته، وفق ما أظهره الدور الراهن للمملكة في أسواق النفط العالمية، والذي استطاعت من خلاله اغتنام التناقضات بين روسيا والصين من جهة، والولايات المتحدة من جهة أخرى، في ضوء حرب أوكرانيا التي أعاقت إمدادات النفط إلى أوروبا، ودفعت بالأسعار إلى مستويات مرتفعة.
على أنّ ما يُعرف بالانسحاب الأميركي من الشرق الأوسط، أو تخفيض الوجود العسكري الأميركي فيه، هو عملياً انسحاب من حروب النفط، لمصلحة تركيز الجهود على حروب أخرى، منها مثلاً حرب الرقائق الإلكترونية التي تفترض تعزيز الوجود الأميركي، العسكري في الأساس، في دول آسيوية، حيث توجد بالفعل ترسانة عسكرية أميركية في دول ككوريا الجنوبية واليابان، أو على مقربة من تايون التي تُعتبر من أكبر منتِجي تلك الرقائق، وتُمثّل في الوقت نفسه اختراقاً كبيراً لسيادة الصين في عقر دارها. أَضِف إلى ذلك أن أسعار النفط الحالية تبدو معقولة بالنسبة إلى الأميركيين (نحو 72 دولاراً لخام غرب تكساس الوسيط، و77 دولاراً لبرنت)، بعدما حُكي عن صفقة جانبية بين إدارة بايدن وابن سلمان قضت بطلب الإدارة من محكمة أميركية تنظر في دعوى خطيبة جمال خاشقجي، بمنْح ولي العهد السعودي، المدّعى عليه في هذه القضية، حصانة سيادية.
وعليه، يمكن تلخيص نتائج الزيارة بأنها تحمل مكاسب كبيرة للصين، كما لاقتصادات الخليج، إنّما ضمن الوتيرة الصينية التي تبتعد، أقلّه راهناً، عن إحداث صدمات كبرى في التوازنات العالمية، والتي لم تصل بعد إلى مرحلة قلْب الطاولات، فضلاً عن أن للصين علاقات متوازنة في هذه المنطقة، تشمل دولاً مِثل إيران التي تقترب علاقتها معها من التحالف، وهذا أيضاً يفسّر جانباً من التحفّظ الصيني الذي رافق ترتيبات الزيارة إلى الرياض.