“المونديال اللبناني” ينطلق من “عجزين”!

/ جورج علم /

إنطلق المونديال الرئاسي اللبناني قبل أن يغادر الرئيس ميشال عون قصر بعبدا. وشهدت حفلة الإنطلاق مسرحيّة ترسيم الحدود، بمشاركة إقليميّة ـ دوليّة واسعة. وعندما خلا القصر الجمهوري، بدأت المباريات الجديّة، وفي كل مرّة كان يجتمع فيها المجلس النيابي لإنتخاب رئيس، كان يفوز العجز بأغلبية ساحقة من الأصوات.

– أين مكمن الخلل؟

واضح أن المجموعة الدوليّة لدعم لبنان تعرف خلطة التبولة جيداً، والمقادير، وعناصر المقبلات، وتعرف أكثر أن “الشيف اللبناني” لم يعد بمقدوره التباهي بمهارة الإعداد، لأنه فقد قدرة المبادرة، وروح الإبداع، عندما وجد الحديقة يباساً، وما تبقى من إخضرار في جنباتها، إنما يغذّى بمياه مبتذلة.

لقد أنجز تفاهم ترسيم الحدود بسلاسة، لأن هناك مصلحة إقليميّة ـ دوليّة مشتركة، وقرار خارجي متحرّر من حق النقض “الفيتو”. في حين أن “الفيتويات” تتكاثر، وتتصادم، عندما يتعلّق الأمر بانتخاب رئيس.

الولايات المتحدة لم تقل كلمتها بعد. هناك أولويات تتقدم، وعندما تنجز خريطة طريق شاملة باتجاه المنطقة على ضوء النتائج التي أفضت اليها الانتخابات النصفيّة للكونغرس، وينطلق القطار، سيشكل الاستحقاق حتماً إحدى محطاته، أو ربما يكون إحدى المقصورات المقطورة بالقافلة.

روسيا المنهمكة بعملياتها العسكريّة في أوكرانيا، وحروب الغاز والنفط، والتداعيات الغذائيّة والاقتصادية، لا تزال مستنفرة في قاعدة حميميم في سوريا، تراقب الوضع في لبنان. الإستحقاق مهمّ  من منظارها، ولكنه ليس هو شهد العسل. العين على حقول الغاز، وكيف سيتصرّف بنيامين نتنياهو في الناقورة. الاستخراج بدأ. والسفينة الإيطاليّة المجهّزة بدأت العمل بكامل طاقتها، وحقل كاريش تحوّل الى رقم لافت في جدول الإستثمارات المربحة عند العدو، فيما لبنان غارق في عتمة الكيديات، والمناكفات، وتضييع الفرص.

أما الاتحاد الأوروبي، فمطابعه لا تزال شغّالة في طبع البيانات الطافحة بالنصائح التي لا تسمن ولا تغني عن جوع. اكتشف باكراً أن نوعيات من المسؤولين تتمنّى طبع العملة الصعبة بديلاً عن الإعلانات، ومناشير الإصلاح، وحتميات التوافق والتفاهم مع صندوق النقد الدولي، والوفاء بإلتزامات باريس ـ 1 وباريس ـ 2 و3، للحصول على 11 مليار دولار، وما يوازي هذا المبلغ، أو يفيض عنه، من الإستثمارات الجديدة عند هذه البوّابة المتوسطيّة. لم يهدد بالويل والثبور، لكنه تحدث يوماً عن عقوبات محتملة، ولوائح إسميّة جاهزة. لكن “الجوائح” أخذته بعيداً، وفرضت عليه أولويات، من جائحة كورونا، إلى جائحة أوكرانيا، إلى جائحة الشتاء القارس، والسلّة الغذائيّة الباهظة، والاقتصاد المتهاوي.

أما فرنسا، الأكثر اهتماماً وحضوراً، منذ انفجار المرفأ، فقد تراجع تأثيرها في “المونديال اللبناني”، نتيجة عوامل كثيرة، منها “الكسوف” الكبير الذي نال من زعامة الرئيس إيمانويل ماكرون عندما فقد الغالبيّة الداعمة في الجمعيّة الوطنية الفرنسيّة بعد الإنتخابات الأخيرة، والحرب في أوكرانيّا، وتداعياتها الكارثيّة المباشرة على المجتمعات الأوروبيّة، وتحديات الطاقة، والرغيف، والأمن الاجتماعي، والاقتصادي، الأمر الذي دفع به إلى مصارحة الفرنسييّن مباشرة، حيث دعاهم بكل شجاعة، ورباطة جأش، إلى “توديع زمن البحبوحة، وحياة الرفاه والترف”.

والحال ينطبق على إيران، لكن من منطلقات مختلفة. العقوبات الغربيّة لم تتراجع، بل نحو المزيد. الاتفاق النووي لم يبرم. العلاقة مع الوكالة الدوليّة للطاقة الذريّة متوترة، وتتخللها طائفة من الأسئلة، والاستفهامات، والشكوك المتبادلة. الحوار مع السعوديّة توقف لغياب النوايا، والأهداف الواضحة. الوضع المتوتر في الداخل، بدأ يحتل مساحات واسعة في الصحف ووسائل الإعلام العالميّة، وهذا ما يؤثر سلباً على مسار “المونديال اللبناني” ببعديه الرئاسي، والدستوري، وموقع ثلاثية “الجيش والشعب والمقاومة” من دستور الطائف، وايضاً من التوازنات الداخليّة الدقيقة، والحساسة.

ويبقى  الدور السعودي محطّ أنظار، وموضع تساؤل. تغريدات السفير وليد البخاري فيها من التلميح ما يطغى على التصريح والتوضيح. ونشاطاته المكثّفة تنتهي دائما بسؤال: وماذا بعد؟ وما هي الخطوة التي ستلي؟ وماذا يريد وماذا لا يريد، من الدستور، والنظام، والاستحقاق الرئاسي، والمواصفات المقبولة، وتلك غير المقبولة، أو المتعارضة مع التوجهات السياسيّة للمملكة، ولغالبيّة دول مجلس التعاون الخليجي؟

وما هو ظاهر من مجالس بعض السفراء العرب، والأوروبيين أن “المونديال اللبناني” يعاني من عجزين: داخلي يحول دون إنتاج تسوية، وإنتخاب رئيس. وخارجي ربما نتيجة مستجدات ضاغطة، وحسابات خاصة تحول حتى الآن دون وضع لبنان على قائمة الأولويات، ودون إمكانية التلاقي، والتفاهم على تبنّي خارطة طريق تضعه على سكّة الخلاص، والإنقاذ.

حتى الملفات الساخنة في الإقليم، والتي تستحوذ على مكانة من الإهتمام تتقدم على الملف اللبناني، لم يطرأ عليها أيّ تحسن يذكر. صحيح أن العراق قد إجتاز مسافات في مسار إعادة تكوين السلطة، وبناء المؤسسات، لكن وضعه لا يزال أشبه بوضع العربة المركونة منتصف الطريق، والتي تجرها أحصنة جائحة بإتجاهات مختلفة، متعاكسة.

أما سوريا، فوق تحوّلت إلى حقل رماية في لعبة صراع المحاور على أرضها، ما بين الأميركي، والروسي، والتركي، والكردي، والإيراني، والإسرائيلي. كلّ له حساباته. وكلّ يطلق النار إما لتحسين شروطه، أو لمحاولات فرضها.

والوضع في اليمن، لا ينبىء بتبدلات محوريّة في المشهد العام توحي بقرب انتهاء العاصفة، وانبلاج فجر جديد.

وفي زحمة هذه المشاغل والضغوط، عاد بنيامين نتنياهو ليرأس حكومة العدو الإسرائيلي، وفي رأس أولوياته إعادة فتح كل الجبهات الهادفة إلى القضاء على مشروع الدولتين، واستكمال مشروع قضم الضفة الغربيّة، وتهويد القدس، واستهداف الأقصى…

وفي المحصلة، يبقى “المونديال الرئاسي” أسير عجزين: داخلي، وخارجي. لا أهل الداخل قادرون على إحداث معجزة، وإنتخاب رئيس. ولا أهل الخارج جاهزون راهناً لإدارة حوار، وإنتاج تسويّة، والبدء بورشة إنتشال لبنان من القعر… سلبيتان لا تنتجان إيجابيّة!