/ زينب نعمة /
بجرأة استثنائية تتحدث جوليا (31 سنة) عن رفضها لإنجاب الأطفال. وبرغم أنّها ما زالت عزباء، إلّا أنّ قرارها قاطع ونهائي. تقول جوليا إنّ الحياة في لبنان، لا تشجع الإنسان على تكوين أسرة وإحضار أطفال إلى هذا العالم المضطرب، فبرأيها أنّ اللبناني بات عاجزاً عن تلبية احتياجاته الأساسية والبديهية، كي يفكّر أن يتحمّل مسؤولية طفل، وهو ما تصفه بالأمر “الصعب والمنهك”، في ظلّ الظروف الاقتصادية الصعبة التي يمرّ بها البلد.
جوليا التي تعمل كمحاسبة في مؤسسة، تؤكّد لموقع “الجريدة”، أنّها ممتنة لعدم إحساسها برغبة الأمومة إلى حدّ الآن، والتي تعدّ غريزة ضاغطة على الكثيرات ودافعاً أساسياً كي يقدمن على الزواج والحصول على أطفال. تقول إنّها سعيدة ومكتفية بأولاد أخواتها، وليست مستعدّة لتحمّل مسؤولية كائن من كافة النواحي، مؤكّدة أنّ “مقدرتها الجسدية والنفسية لا تسمح لها بإنجاب طفل، والاهتمام بكافّة تفاصيله، وتأمين متطلباته، وتأمين بيئة سليمة لنموّه النفسيّ والجسديّ”.
أمّا وسيم (36 سنة) فيؤكّد لـ”الجريدة” أنّه في حال تزوج، وهذا أمر مستبعد بالنسبة إليه، فسيكون من ضمن شروطه هو عدم الإنجاب.
يقول وسيم إنّ راتبه لا يكاد يغطي مصاريفه العادية جداً، وهنا لا نتحدّث عن الرفاهية العالية المستوى، بل الأمور الأساسية فقط من مأكل ومشرب وملبس ومواصلات، كما أنّه يساعد والديه في مصاريف المنزل، بعد أن أصبح والده من دون عمل بسبب ظروف صحية واقتصادية .
يخبرنا وسيم عن صديقه المتزوج منذ 10 سنوات، وما زال مصراً على قراره بعدم الإنجاب، بسبب الفقر الشديد الذي يعانون منه، وعدم استطاعتهم تحمّل متطلبات الأطفال، “لذلك كان القرار القاطع بعدم حصول حمل رفضاً للظلم الحتميّ الذي سيتعرض له المولود الذي سيأتي إلى هذه الدنيا، والذي سيضطر إلى تحمّل شظف العيش والقلّة، بسبب خيار ذويه الأناني والبعيد عن العقلانية”، بحسب وصفه.
وتعود أصول “اللاإنجابية ” إلى حقبات تاريخية قديمة جداً، حيث ظهرت نماذج على مرّ الأزمان، رفضت فكرة الإنجاب.
على سبيل المثال، الشاعر أبو العلاء المعرّي، الذي أوصى بالكتابة على قبره “هذا ما جناه عليّ أبي وما جنيت على أحد”، في إشارة واضحة على رفضه للحياة واعتبارها مكاناً للعذاب والمعاناة، ربما بسبب الفقر الشديد الذي عانى منه في حياته، وأيضاً بسبب إصابته بمرض الجدري في طفولته، ما سبب له فقدان البصر والكثير من المشكلات الصحيّة التي أنهكته طيلة عمره، والذي جعلته متشائماً ينظر إلى الحياة بسوداوية وظلامية شديدة.
أصحاب الفكر “اللاإنجابي” يعتبرون أنّ الموت هي النتيجة الحتمية للحياة، مع ما تتضمنه هذه الحياة من آلام ومعاناة وأمراض وفقر وويلات سيتعرّض لها الإنسان بشكل تلقائي، هذا عدا عن الحروب والنزاعات المسلّحة والظواهر الطبيعية، كالزلازل والفيضانات التي تؤدي إلى موت وتشرّد ومعاناة لمئات آلاف البشر. هم يعتبرون أنّ خيار عدم إنجاب طفل، هو الأجدى في عالم صعب وقاسي، خاصّة مع عدم قدرة أيّ شخص أن يضمن السعادة لهذا الطفل الذي سيأتي، ويعتبرون أنّ قمة الأنانية أن يُنجب الناس لأسباب تتعلّق برغبات شخصية بحتة، كاستمرارية النسب، على اعتبار أنّه لا يجب أن “تنقرض” السلالة، أو لأسباب تتعلّق بالرغبة بعدم الإحساس بالوحدة مع التقدّم في العمر، والخوف من العجز والوحشة، أو لضمان أن يقوم الولد بمساعدة أهله من كافّة النواحي.
وأصحاب هذا الفكر يزدادون، وقد برزت مجموعات في العالم العربي تكتّلت سوياً في منصات رقمية ومجموعات إلكترونية، لا سيّما عبر وسائل التواصل الاجتماعي، من أجل نشر هذه الثقافة وتعريف الناس بها.
ويلجأ بعض “اللا إنجابيين” الذين يمتلكون حياة جنسية نشطة، أو من يرغبون بالزواج، إلى استعمال الوسائل المختلفة لتحديد النسل (وسائل منع حمل طبية)، ومنهم من يقوم بعمليات جراحية معيّنة لضمان عدم حصول حمل بشكل مؤكّد وحتميّ.
أصحاب الفكر “اللا إنجابي” يتعرّضون لحملات انتقاد واسعة، سواء من محيطهم الضيّق أو من المجتمع، بسبب عدم تقبّل الفكر الشرقي لهذا الاتجاه، كما يتعرّضون لهجوم واسع من قبل المتدينين ورجال الدين، على اعتبار أنهم ينادون بأفكار متناقضة مع المبادئ الدينية التي تدعو إلى الزواج والإنجاب وتكوين عائلة وإعمار الأرض.
حتى على الصعيد العائلي، فإنّ هذه الشريحة تتعرض لضغط كبير تجعل الكثير منهم يتحفظون عن البوح بأفكارهم، للجم الأفواه وتجنّب الجدالات والمناقشات العقيمة التي لا تجدي، بحسب برأيهم.