/ جورج علم /
غاب الرئيس الروسي عن الأمم المتحدة، فتعمّقت الهوّة ما بين الشرق والغرب، حول أوكرانيا.
غاب الرئيس الصيني، فاتسعت دائرة الشكوك ما بين الصين، والولايات المتحدة حول تايوان.
غاب الكوري الشمالي، فازدادت زخّات الصواريخ العابرة، المتطايرة يمنة ويسرى في أجواء التحدّي.
حضر الرئيس الأميركي إلى نيويورك. وقف على المنصّة داخل الصالة الكرويّة، ولم يجد أمامه سوى الحلفاء المصفّقين. كانت وسائل الإعلام في مكان آخر، تقف عند عتبة الكرملين، في حضرة القيصر، تتابع محاولات ضمّ مناطق دونيتسك، ولوهانسك إلى روسيا، وترصد حركات يديه، وتقاسيم وجهه في حديثه الجدّي عن التعبئة، والصواريخ الانشطاريّة.
لم تعد الأمم المتحدة، منظمة جامعة، حاضنة، توفيقيّة. لم يعد اللقاء السنوي ملتقى زعماء رياح الأرض الأربع. لم يعد نادي الرؤساء شاملاً جميع الأعضاء. فعلت جائحة كورونا فعلها. فرضت عزلة، وعزلاً، وانعزالاً على الكوكب. وفعلت جائحة أوكرانيا فعلها، ولا يزال نهر المفاجآت هادراً بكل جنون التحديات. والآن يقف العالم مشدوهاً أمام جائحة “الهواء الأصفر” المتسرّب من محطة زابوريجيا، وسائر المحطات التي تحذّر من كارثة نوويّة!
والمقلق أن أحداً لا يملك سدّا منيعاً يقف في وجه هذا الإعصار المخيف الذي يغلف الكوكب بسحب داكنة بالغضب، والتحدّي، والإستفزاز، ومنطق القوّة، ومنطق الشراهة، ومنطق الإنتقام. كانت الأمم المتحدة، الملتقى، ومبعث الأمل، لكنها تحوّلت إلى منبر، تصدر عنه ثرثرة خطابيّة، بلغة خشبيّة لا تترك أي صدى. إلاّ أن لبنان ـ رغم واقع الحال ـ تمكّن من أن يحصد “جوائز ترضية”، نتيجة الديناميّة التي مارسها وفده برئاسة الرئيس نجيب ميقاتي، مع عدد من قادة الدول، ورؤساء الوفود المشاركة.
لا يمكن تقييم قيمة هذه “الجوائز” في الوقت الراهن، فالمسألة تحتاج إلى بعض الوقت حتى تتكشّف النوايا، وتثمر الوعود، وتتضح معالم الصورة. خاض الرئيس ميقاتي تجربة ناجحة، كانت له سلسلة من اللقاءات مع قادة دول مؤثرة في الشأن الأقليمي، وفي الوضع اللبناني. وكذلك الأمر بالنسبة لنائب رئيس مجلس النواب الياس بو صعب، ووزير الخارجيّة عبد الله بو جبيب، ووزير التربيّة عبّاس حلبي، وغيرهم.
من “الجوائز”، البيان الثلاثي المشترك الأميركي ـ الفرنسي ـ السعودي حول لبنان، وتأكيده على حكومة إصلاحيّة تلبّي شروط صندوق النقد الدولي، وأنتخاب رئيس يجمع كل اللبنانييّن، وتنفيذ القرارات الدولية ذات الصلة، والتأكيد على الطائف.
تزامن البيان مع مستجدين في الداخل:
- إنتهاء مرحلة “اللبننة”، وبدء مرحلة السفراء، والقناصل، في مواكبة الإستحقاق الرئاسي، ورعايته، بدءاً من حركة سفراء الإتحاد الأوروبي مجتمعين إلى القصر الجمهوري، ومن ثم إلى المجلس النيابي، إلى تحرّك السفراء: السعودي، والفرنسي، والأميركي، وغيرهم.
واقتصرت “اللبننة” على التوصيف. وخرج كل رئيس حزب، أو كتلة نيابيّة، ليعلن عن المواصفات التي يريدها في الرئيس المقبل، دون الاهتداء إلى “جوامع مشتركة”. عندها بدأت مرحلة السفراء، والقناصل في محاولة جادة لوضع شيء ما على نار الإستحقاق!
- الثاني، والمهم، يتمثّل في امتحان القوى الأمنية في الشارع، ومدى قدرتها على مواجهة الفوضى المسلحة التي بدأت تطل برأسها من قاعات المصارف، وحقوق المودعين.
وما جرى، ويجري، لا يمكن التقليل من أهميته، وخطورته، خصوصاً إذا كان بعض “المشغّلين” يسعون إلى تحقيق مكاسب سياسيّة، من خلال المضاربات في بورصة الفوضى الأمنيّة ـ الماليّة!
وعلى وقع هذين المستجدين، أحدث البيان الآنف الذكر تموّجات واسعة من ردود الفعل.
- السياديّون، رحبوا، وتنفّسوا الصعداء، وأكدوا على جديّة المسعى السعودي ـ الفرنسي ـ الأميركي، لقطر المركب اللبناني المتهالك، نحو شاطىء الأمان. وحجتهم في ذلك أن السعودي جاد، ومصمّم، وله هالة من الإحترام، والكلمة المسموعة لدى العديد من عواصم دول القرار، وخير دليل المبادرة الإنسانيّة التي قام بها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، مؤخراً، تجاه الأزمة الروسيّة ـ الأوكرانيّة، والتي أسفرت عن إطلاق أسرى لخمس دول، في إطار عمليّة تبادل محتجزين بين روسيا وأوكرانيا، وتكللت بإطلاق 10 أسرى من مواطني المغرب، والولايات المتحدة، وبريطانيا، والسويد، وكورواتيا. وقد لاقت ردود فعل إيجابيّة عالميّة، خصوصا من رؤساء الدول المعنيّة مباشرة. ومثل هذا الرصيد الدولي يمكن التعويل عليه لدعم أي مبادرة سعوديّة إنقاذية للبنان، خصوصاً أن ما تريده الرياض، لا يشكّل مطلبا تعجيزيّاً للدول المعنيّة، والمهتمّة، كونه ينحصر بالطائف، وبضرورة وضعه موضع التنفيذ، مع التذكير بأنه كان قد ولد أساساً في حضن تسوية دوليّة ـ إقليميّة، عربيّة ـ محليّة كبرى، لإنقاذ البيت اللبناني المتداعي.
- أما الممانعون، فشككوا متسائلين: كم هو الرقم الذي يحمله البيان الجديد؟ وما هو المصير الذي آلت اليه عشرات البيانات المماثلة الأخرى؟ وهل من متّسع بعد لهكذا بيانات في أدراج الإهمال، والنسيان؟!
ويتساءل الممانعون أيضاً عن الرصيد، عن حجر الرحى، عن القوّة الضامنة، النافذة، والقادرة على وضعه موضع التنفيذ! ويؤكدون على محدوديّة النظرة، وفئويّة التصرف، وحجتهم أن لبنان ليس مختبراً لتجارب الأميركيين، والفرنسييّن، وغيرهم. ولا هو ساحة لتصفية حساباتهم. وكما يحاولون، هناك أيضاً من يحاول، وله وزن، وحضور، وصاحب قدرات، وإمكانات. وإن المقاربة الجدية لا تقتصر على ما يقوله فلان، وما يريده علتان. المقاربة الجديّة تكون بالحوار. بفتح الأبواب الموصودة، والنوافذ المغلقة، للوصول إلى مقاربة واحدة، موضوعيّة، مقبولة للاستحقاق الرئاسي، وللوضع اللبناني ككل، وهذه غير متوافرة لسببين، داخلي وخارجي:
داخلياً، إذا كان الطائف هو الحل. فإنه كذلك بنظر فئة من اللبنانييّن، مقابل أخرى تنظر اليه على أنه المشكلة، لأن بلداً لا يمكن أن يدار برؤوس ثلاثة، وأي كائن برؤوس ثلاثة، هو مسخ غير قابل للحياة!
خارجيّاً، إذا كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، قد أوقف العالم على رجل واحدة، نتيجة تهديده باستخدام السلاح المدمر، فهل لدى هذا العالم الخائف، المرتبك، المشغول بترتيب شؤونه، وشجونه، وتدبير أولوياته، فسحة أمل تعطى للبنان؟!