| جورج علم |
يربطني خبز وملح بعمامة شيعيّة ناصعة. زرته في مربّعه الجديد للإستئناس وتطيّب الأنفاس، وكان حديث طويل في مختلف الشؤون والشجون، حتى داخل البيت الشيعي الذي ـ على حدّ قوله ـ “ليس على ما يرام”.
هاجسه الأول إعمار ما تهدّم. “الأرض المحروقة – من وجهة نظره – يسكنها الفراغ والقنوط، ويصبح الخيار الأنسب، التفتيش عن المكان الذي يوفّر الحدّ الأدنى من إلتقاط الأنفاس”.
يرى أن “عثرات الإعمار، مستوردة، أو مفروضة، قبل أن تكون من صنيع محلّي، أو أيّ شيء آخر. والإغتراب الشيعي قي أفريقيا، وديترويت، كفيل بإعادة بناء ما تهدم، لكن تنقصه الوسيلة. يحاذر الفرد المجاهرة بولائه لدى دول تسير أنظمتها خلف الغربيّ النهم، والذي يتّهم مكوّناً لبنانيّاً بالإرهاب!”.
وفق قناعته “المال، يمكن تأمينه، لو توافرت الوسائل، لكن التحويلات البنكيّة دونها صعوبات بعدما فقدت مصارف لبنان مصداقيتها، وحُجبت الودائع عن أصحابها. أمّا الإجراءات المتبعة في المطار، فتنفّذ طبقاً لإملاءات، بحيث يُمنع إدخال مبالغ كبيرة، إلاّ بعد التصريح المسبق عنها، ومعرفة أصولها، وكيفيّة إدخارها، والحصول عليها، والغرض من إدخالها؟ وهذا النوع من الإجراءات يسبب الكثير من المتاعب للمغترب، هو بغنى عنها”.
يضيف “دور الدولة في هذا المضمار أمام علامات إستفهام. تقول إن الأولويّة للإعمار، لكنّها لا تملك المال. فيما تُخضِع سبل توفيره لسلسلة من الشروط العالية السقف. يمنّن البعض بعقد مؤتمر دولي، لكن للدول المانحة إملاءات فوقيّة، ومطالب مواصفاتها أقرب الى إستعمار مقنّع، مدجّج بأصفاد فولاذيّة لتكبيل الإرادات، ومصادرة الخيارات!”.
ويتابع “المؤسف أن العديد من الدول، سواء أكانت صديقة أو شقيقة، تتعامل بمنطق الوصيّ، أو الحاكم – المرجع، وهذا شعور مسلوخ من قناعات دول عدّة، ترى أن السطوة الخارجيّة كانت دائماً الأفعل، لوضع الأمور في نصابها!”.
ويستطرد “طبعاً لسنا من هذا الرأي، ولا من مروّجي هذا الإعتقاد، لكن الأزمة تمدّدت، وتحوّلت إلى أخطبوط متمكّن تسلّلت فروعه لتمتص عروق التعافي، وأصبح الجبل اللبناني أجرداً أقرعاً، فيما الساحل يغصّ بناسه، وتعقيدات مشكلاته التي باتت تشكل خطراً على الكيان، والوجود، والمصير”.
ينظر الى البعيد، ثم يقول: “وافاني يوماً كاهن صديق مسؤول عن الرعيّة في قرية محروسة بغابات السنديان. وقال بحسرة: إحتفلت يوم الأحد بمراسم القربانة الأولى لثمانية أولاد فقط، في بلدتي التي يزيد عدد سكانها عن 900 ناخب، وفق لوائح الشطب، وهؤلاء الصبية، ولدوا قبل 9 سنوات. وقد لا أجد بعد 9 سنوات من هذا التاريخ، ولداً في البلدة يتقدّم إلى المناولة الأولى!”.
يضيف الكاهن: “إن الشراويل العتيقة فقدت أصحابها، والمعاول التي كانت تنهش الصخر وتحوّله إلى جنائن غنّاء فقدت السواعد السمر، والشباب أمام هجرتين: إلى الداخل، أو نحو غربة ربما لا عودة منها”.
يقول الشيخ: “لنعترف بأن هناك أزمة ثقة بين جيل الشباب ووطنه، وعندما لا تقدّم الدولة إلى أبنائها سوى جواز سفر، وتأشيرة، عندها نصبح أمام معضلة ولاء وإنتماء. والجبل الذي يفقد نخبه، وسواعده، يتحوّل من أخضر إلى أقرع. وعندما تزحف جحافل الملول والسنديان لتحتل مساحات الكروم، وسهول الخيرات والمواسم، عندها، سلام على الإنتعاش، أمام بؤر الإنكماش”.
والمشكلة وفق رأيه “إننا نبني الدولة من فوق، في حين أن البناء يبدأ من تحت، من قاعدة صلبة، وأساسات متينة. مشكلتنا أن القاعدة رخوة، غير مؤهلة لبناء سليم، ولا تستطيع أن ترفع أبراجاً تتحدّى رياح المتغييرات!”.
تسأله عن السلاح فيجيب: “لقد فقد صلاحيته عندما فقد مصداقيته. وفقد مصداقيته عندما تشتّت ولاؤه. نحن فوق هذه البقعة من العالم، محكومون بنظريات التاريخ، وقواعد الجغرافيا. خيارنا أن يكمّل بعضنا بعضاً، ومصالحنا لا تكتمل إلاّ بالحوار والتلاقي. ولا حوار، ولا تلاقي إلاّ في حمى الدولة، وتحت سقفها”.
… إلى اللقاء…














