| غاصب المختار |
ألقى رئيس الجمهورية الجديد جوزاف عون خطاب القسم أمام نواب الأمة بعد انتخابه، وضمّنه تعهدات عالية السقف جداً على كل المستويات، بحيث أثارت تساؤلات عن إمكانية تنفيذها كلها، أو حتى الجزء الأكبر منها، مع أن بعض الجهات النيابية أشارت بشكل واضح إلى أن الخطاب لم يتضمن في الشق المتعلق بتنفيذ الدستور، ما يفيد بالتوجه لإلغاء الطائفية السياسية، ولو أن الرئيس تعهد بوضع قانون انتخابي جديد، اعتبرت الجهات النيابية أنه يمكن أن يكون مدخلاً يمهّد تدريجياً لإلغاء الطائفية السياسية، ومن ثم تشكيل أو انتخاب مجلس للشيوخ يمثل كل الطوائف.
سبق للعديد من رؤساء الجمهورية، وكانوا مدعومين من الخارج بقوة كما الرئيس الحالي عون، أن تعهدوا بكثير من الأمور المهمة لبناء دولة حديثة عادلة لا مكان فيها للمحاصصات السياسية والطائفية والزبائنية والفساد والهيمنة وسيطرة المال، لكنهم اصطدموا بطبيعة التركيبة السياسية اللبنانية المعقدة والصعبة، وبحسابات صغيرة مصلحية للقوى السياسية، وهي بطبيعتها مختلفة بين بعضها على أمور كثيرة، استراتيجية وطنية وإجرائية إدارية، وحول كيفية إدارة الدولة، وحصة كل طرف منهم فيها، وما يمكن أن يستفيد منها فيقبله وما يمكن أن يضرّه فيرفضه. والشواهد كثيرة منذ البدء بتطبيق اتفاق الطائف بداية تسعينيات القرن الماضي حتى الآن.
كان الوجود السوري في لبنان عاملاً مهماً في توجيه الحياة السياسية والعامة في لبنان، لكن اختلفت ظروف لبنان بعد خروجه، ومن وقتها إلى اليوم وقع لبنان في الانقسامات الخطيرة، وفي الأزمات المتتالية، حتى وصل إلى شغور موقع رئاسة الجمهورية مرتين، وهي سابقة تاريخية لا يجوز أن تتكرر. لكن مع تغيير ظروف المنطقة، بدا أن شيئاً جديداً ما سيطرأ على الحياة السياسية والدستورية، لكن بقيت الحال على ما هي عليه، بل تفاقمت لاحقاً أكثر مع الانقسام السياسي الحاد عمودياً وافقياً وطائفياً، فبات التدخل الدولي في كل شؤون لبنان كأنه أمر واجب لانتشال لبنان من أزماته، وتم الضغط على القوى السياسية بقوة من أجل وضع خلافاتها جانباً وانتخاب العماد عون رئيساً.
أما وقد تعهد الرئيس بما تعهد به، فقد يظن البعض أنه أمر سهل التطبيق، بينما الحقيقة المرة أن الطبقة السياسية الحاكمة لم تغير مفاهيمها بعد لكيفية إعادة بناء الدولة الحديثة، وها هي بدأت تتصارع على تشكيل الحكومة الأولى للعهد الجديد ترشيحاً لرئيسها العتيد، وبطرح مطالب وشروط لتسهيل تشكيل الحكومة. ومثل هذا الواقع لا يُنبئ بتسهيل عهد الرئيس الجديد، ما لم يكن هو حازماً في قراره، ولو بصلاحيات محدودة دستورياً لرئيس الدولة، فيقبل بما يخدم تعهدات خطاب القسم، ويرفض ما يعرقلها.
ولأن العبرة دائماً في الأفعال، سيحكم الواقع على مسيرة الرئيس الجديد ما إذا كان سيتهاون في عدم تسهيل السياسيين لمهمته الإنقاذية المفترضة أم أنه سيواجه العرقلة. لا سيما أنه لو تم تشكيل الحكومة بسهولة ويسر، فإن أمامها ورشة تعيينات إدارية وأمنية وقضائية واسعة، اعتادت القوى السياسية على أن تضع يدها عليها بتقاسم المواقع سياسياً وطائفياً، وقد يكون هذا الأمر معرقلاً لتوجهات الرئيس وتعهداته. كما أن قانون الانتخاب الجديد المفترض أن يتم التطرق إليه باكراً قبل الانتخابات المقبلة، قد يكون سبباً لخلافات واسعة، عدا الأمور الأخرى التي وعد الرئيس بتنفيذها، مثل اللامركزية الموسعة حيث لكل طرف وجهة نظر فيها. ومثل قانون استقلالية السلطة القضائية… وغيرها الكثير من القوانين والتوجهات التي تضمن بناء الدولة الحديثة.
وعلى هذا، حبذا لو يلتزم المسؤولون بمقولة الرئيس الراحل الدكتور سليم الحص: “يبقى المسؤول قوياً ما لم يطلب شيئاً لنفسه”. وبمقولة وزير المال الراحل الياس سابا في حكومة الرئيس الراحل عمر كرامي: “وقف دلع السياسيين على المال العام”، فتنتظم أمور الدولة.