/ محمد حمية /
فيما أثّقلَت سنوات الأزمة كاهِل المواطنين، بأعبائها المالية والاقتصادية والاجتماعية، وأفقدتهم قيمة رواتبهم وأجورهم وودائعهم في المصارف، نزل مشروع موازنة الـ2022، كالصاعقة على رؤوسهم، لما يتضمنه من بنودٍ قاسية لا تعرف الرحمة ولا الشفقة، تأتي لِتُعمّق فجوة الفقر والجوع، وتلبي مطالب ومصالح “حزب المصارف”، ومصرف لبنان وسد خسائره والفجوة المالية عمومًا، على حساب المودعين والمواطنين من ذوي الفئات الفقيرة والمعدومة، والتي قاربت الـ70 في المئة من الشعب اللبناني، بحسب تقديرات مراكز الدراسات ووزير الشؤون الاجتماعية.
وإذ من المتوقع أن يتحول مشروع الموازنة الى مادة للسجال، وقنبلة خلافية، على طاولة مجلس الوزراء، لا تبدو أنها “ستمُر على خير”، بحسب ما أكدت أكثر من جهة حكومية لموقع “الجريدة”، علمًا أن فريق رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، بحسب المعلومات، يسعى جاهدًا مع وزير المال يوسف الخليل، لإقرارها في مجلسي الوزراء والنواب بأسرع وقت ممكن، ولو اقتضى الأمر عقد تسوية مقبولة مع معارضي المشروع بصيغته الحالية. لكن المصادر تتوقع مسارًا طويلًا مجهول النهاية، فهناك جلسات طويلة في السراي، وجلسة أخيرة في بعبدا لإقرارها، ثم “قطوع” مجلس النواب بتكتلاته المؤيدة والمعارضة، وردة فعل الشارع.
وتؤشر خريطة مواقف الأطراف السياسية، كما استطلعها موقع “الجريدة”، إلى وجود انقسام ومعارضة واسعة لمشروع الموازنة الحالي، على رأسهم من حزب الله الذي يشن هجومًا عنيفًا عليها، وكذلك التيار الوطني الحر الذي أعلن رفضه للصيغة، إضافة إلى حركة أمل التي أعلن مكتبها السياسي رفضه مشروع فرض ضرائب جديدة على الطبقات الشعبية الفقيرة، ومنح صلاحيات استثنائية للحكومة!
اللافت هو التناقض بين مشروع وزير المال، الذي يُمثّل حركة أمل في الحكومة، وبين موقف الحركة المعارض، فضلًا عن خلفية الخليل المالية، وانسجامه مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، كونه كان يشغل منصبًا هامًا في “البنك المركزي” ضمن فريق عمل سلامة. كما يدعو للتساؤل: هل سيوافق الخليل على مشروع يتعارض مع توجهات سلامة، لا سيما لجهة تحديد الخسائر المالية وتوزيعها؟ إضافة الى تلبية مطلب “الحاكم”، برفع إيرادات الخزينة لكي تمول نفسها من “لحمها”، لتخفيف الأعباء عن احتياطات “المركزي”؟ واستطرادًا، ما علاقة الموازنة بالتدقيق الجنائي؟
وجاء مشروع وزير المال، مكملًا ومتكاملًا ومنسجمًا مع توجه حاكم مصرف لبنان، لجهة طبيعة الموازنة الاقتصادية والمالية والاجتماعية، وتوزيع الخسائر على الجهات الأربع: المصارف ومصرف لبنان والدولة والمودعين، إذ تتحدث أجواء حكومية عن أن “حزب المصارف” يرى في مشروع الموازنة فرصة طموحة وثمينة لتمويه وإخفاء الخسائر، تمهيدًا لتصفيتها، عشية تفعيل التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان، وتهم الفساد الموجهة لـ”الحاكم”.
وما يزيد الشكوك، أن الرسم التشبيهي الرقمي المسرب للموازنة، يلحظ تحميل 54 في المئة من الخسائر للمودعين، و20 في المئة للحكومة، ومصرف لبنان، و19 في المئة فقط لقطاع المصارف!
وتنقل مصادر مالية، شاركت في أحد الاجتماعات مع نائب رئيس الحكومة سعادة سعاده الشامي، لـ”الجريدة”، أنه جرى حسم مسألة تحديد الخسائر المالية 69 مليار دولار، لكن الخلاف مستمر على توزيعها على الجهات المعنية، مع توجه لتحرير المودعين الصغار، وتكبيد المودعين الكبار الخسارة الأكبر.
ويتضمن مشروع الموازنة الكثير من الملاحظات، والثغرات، والتناقضات، في أقسام الاعتمادات والنفقات والايرادات، منها أنه يحدد العجز في الموازنة 20 في المئة، فيما يطلب صندوق النقد الدولي صفر عجز كشرط لتقديم الدعم المالي! كما يذكر “منح مؤسسة كهرباء لبنان سلفة خزينة، طويلة الاجل، بحد أقصى 5 آلاف مليار و250 مليون ليرة لتسديد عجز شراء المحروقات، وتسديد فوائد أقساط القروض لصالح مؤسسة كهرباء لبنان”، ما يُسّتشف بأن لا إصلاح لقطاع الكهرباء في الموازنة، وبالتالي الاستمرار بسياسة استنزاف مالية الدولة بسلف الخزينة.
والأخطر، هو رفع الدولار في الموازنة الى عشرين ألف ليرة، رغم عدم ذكِر ذلك في “المشروع”، لكن تحديد قيمة الإيرادات والنفقات تكشف ذلك، علماً أن أي تعديل سيحصل على “دولار الموازنة” سينسُف هذه الأرقام. لكن بمعزل عن السعر الذي سيُعتمد، فإنه سيُرتب مضاعفات اقتصادية واجتماعية كارثية، لأنه سيرفع معظم فواتير خدمات الدولة وضرائبها الى حدٍ كبير.
وتشير مصادر نيابية ومالية لـ”الجريدة” إلى أن “دولار الموازنة، سيخلق إشكالية كبرى في نقاشات الموازنة، إذ لا يمكن للمواطن أن يتحمل دولار 20 ألف ليرة”. وتكشف المصادر أن “خفض سعر الصرف في السوق الموازية، هو خدعة وهمية ونقدية على المستهلك والمواطنين، وعلى الدولة نفسها، والجهات المانحة، لتمرير الموازنة، بعدما ضخ سلامة 125 مليون دولار في السوق خلال أسبوع واحد”، لكن كم 125 مليون دولار يستطيع سلامة أن يضخ لكي يحافظ على سعر الدولار؟ تسأل المصادر التي تضيف: “لهذا السبب يريدون تمرير الموازنة بهذه الصيغة الأسبوع المقبل، وإحالتها الى مجلس النواب، كرسالة للمجتمع الدولي وصندوق النقد الدولي، بأننا أنجزنا الموازنة بموافقة مجلس النواب، مقابل الحصول على 500 مليون دولار على مدى 5 سنوات، لدعم الطبقات الأكثر فقرًا والبطاقة التمويلية، حيث جرى استرضاء المواطنين براتب شهر وبدل نقل جديد للقطاعين العام والخاص، لتمرير البنود الموجعة في الموازنة”. أما “الدولار الجمركي” فتم تحديده بحسب المصادر بـ 8000 ليرة لبنانية.
أما طلب الحكومة صلاحيات تشريعية لوزير المالية، فيشكل سابقة، حيث درجت العادة أن يطلب رئيس الحكومة، أو الحكومة مجتمعة، صلاحيات استثنائية، ولا تُعطى، فكيف لوزير واحد أن يطلبها؟ ويمكن العودة بالذاكرة إلى مرحلة تكليف الرئيس سعد الحريري الأخيرة حين طلب صلاحيات استثنائية لحكومته، لكن قوبل برفض رئيس مجلس النواب نبيه بري، والأمر أيضاً ينسحب على حكومة الرئيس حسان دياب الذي رفض مجلس النواب منح حكومته صلاحيات استثنائية.
وفي سياق ذلك أكد مصدر في كتلة الوفاء للمقاومة، لموقع “الجريدة”، رفض حزب الله منح صلاحيات استثنائية للحكومة، مذكرًا بطلب حكومة الرئيس حسان دياب هذه الصلاحية لمناقشة قانون “الكابيتال كونترول” ولم يوافق المجلس.
وشدد المصدر على رفض “الكتلة” إقرار ضرائب جديدة، قبل إقرار خطة التعافي واستقرار سعر صرف الدولار، داعيًا الى اعتماد مقاربة مختلفة للموازنة، مؤكداً أنها لا يمكن أن تمر بصيغتها الحالية. ورسم المصدر سقف حزب الله للموازنة: “حماية المواطنين، واستعادة حقوق المودعين، وأن تترافق أي ضرائب جديدة مع خطة اقتصادية مالية للنهوض”. وفضّل المصدر التعمق بدراسة “دولار الموازنة”، لجهة جدواه الاقتصادية، وأبعاده، وتداعياته على القدرة الشرائية والنشاط الاقتصادي”.
ويتلاقى التيار الوطني الحر مع حزب الله برفض المشروع بصيغته الحالية، كونه لا يلحظ، بحسب ما تشير أوساط تكتل لبنان القوي لـ”الجريدة”، أي خطة لتفعيل القطاعات الإنتاجية، لا سيما الزراعة والصناعة، وكذلك السياحة، وفقط تقتصر على “إطعام” الناس، كاشفة أن التيار سيقاوم لمنع إقرار المشروع.
أما الحزب التقدمي الاشتراكي، فيفضل التريث بإصدار أحكام وخطابات شعبوية ضد مشروع الموازنة، بانتظار مناقشته في مجلس الوزراء، وكذلك في مجلس النواب. لكن مصادر نيابية في الحزب الاشتراكي توضح، لـ”الجريدة”، أن “الحزب سيُوازن في موقفه، بين الأوضاع الاقتصادية للمواطنين، وبين ظروف الانهيار المالية التي تعيشها الدولة، وشروط صندوق النقد الدولي من جهة ثالثة”.
ومن سوء حظ القوى السياسية كافة، أن مشروع الموازنة جاء في توقيت قاتل، قبيل 3 أشهر من الانتخابات النيابية، ما دفع الجميع للتبرؤ، ونفض اليد من المشروع، لكي لا يتجرع “السم” الانتخابي، ما يحوّل الموازنة الى “موازنة لقيطة”، وما سيجعل القوى السياسية تواجه خيارات أحلاها مرُ: أن تعمد الحكومة الى رمي كرة النار الى مجلس النواب، كالعادة، لتبدأ المساومات والصفقات على البنود على القطعة، بالاستعانة بـ”أرانب” الرئيس بري، أو تمريرها بالصيغة الحالية مع تخفيف الأعباء عن المواطنين، أو الخيار المرجح بـ”طمطة” جلسات المناقشة في البرلمان حتى ارجاء البحث الى ما بعد الانتخابات، ويجري الصرف على القاعدة الاثني عشرية، والاستمرار بسياسة السُّلَف، و”الترقيعات”، وتعاميم الحاكم المركزي التي تلاقيها، حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولا… لكن ذلك لن يوقف نزيف الانهيار في جسد الدولة، ولا تفاقم الازمات.