المناورة العسكرية
تصوير عباس سلمان

الأرض همست أسرارها: بالتأكيد سيعبرون

/ رنا الساحلي /

كنا على الموعد.. والموعد ابتدأ…

ربما ظن البعض أنّ المحاكاة هي لقصص تستعيد أمجاد تاريخ مرّ منذ ثلاثة وعشرين عاماً!

لقّم سلاحك وأقدم، ها هم يعبرون…

ظن البعض انها استعراض لقوة قد رآها عام 2000، أو خلال حرب تموز 2006.

منذ أن بدأ حزب الله في العام 1982 بفئة قليلة آمنت بربها، لم تستوحش طريق المقاومة لقلة العدد… لم يكن يتوقع الكثيرون أنّ السنين، ووضوح الصورة والرؤية في المشروع والهدف، ستجعل من هذا الحزب قوة إقليمية يُحسب لها ألف حساب قبل الاقتراب.

ثلاثة وعشرون عاماً مرّت على الانتصار الكبير، الذي لم يستطع تحقيقه أعتى الجيوش. أربعون ربيعاً ونيّف من الزهور مرّت، وما زال الزرع في أوله، ونضوج الثمر تلوّحه شمس أيار…

هو ذا اليوم الذي أعلنت عنه العلاقات الإعلامية، في محاولة لإعادة استذكار ذاك الاندحار الذي هز الكيان الغاصب، فحضّرت له لاستقبال الإعلاميين بما يليق بهم.

ابتدأ النهار عند بزوغ شمس 21 أيار، وبدأت الوفود تتوالى، وكأن مهرجاناً سيقام ها هنا… ساعة وانطلق الموكب يشق الطريق باتجاه الجنوب، تتمايل معها القلوب، ويزداد الشوق وهجاً كلما اقترب الجميع من المكان.

الوجهة باختصار: ”كسّارة العروش”. اسم يدل برمزيته على انكسار جبروت أمام أقدام تعبق منها رائحة تراب ندي عشق كل مسار مرّوا به، فغفا على كتف الجبل مطمئناً…

هناك من يحرس تلك الأرض والعينُ على الزناد.

تلك العين التي قاومت المخرز، كانت لها دلالات متعددة، فالعين قد تكون يداً، أو عقلاً مدبراً، أو قيادة حكيمة، أو شجاعةً قلَّ نظيرها….

هناك في كسارة العروش، حيث كل شيء كان متقناً. كل شيء يخبر أن هذا المكان قطعة من السماء نزلت لتخبئ حكايا المقاومين، لتروي لنا قصص عشق باتت حباً ووروداً تُرشّ على العروس في ليلة الحناء…

هنا في كسارة العروش، ضباب يحيط بك، وكأنك تدخل بين الغمام، وغبار يتراقص مع الهواء يخبرنا أن الآتي أجمل، وأن عبق التضحية سيدخل إلى خلايا الذاكرة، ليعيد لنا أمجاداً لا يمكن أن يرويها الرواة، ولكن يعيشها من عاصرها، من تنفّسها، من دخلت إلى رئتيه فأصبحت تسير في خلاياه ويشعر بذاك الانتماء….

عند ذاك المدخل وقف “الرجل”، وبنبرة مبحوحة خجلة، تتقطع بعض الأحرف لتختبئ في صدره لتعلم أنه الشجاع الخجول. تعليمات واضحة، واعتذار مسبق عن أي تقصير قد يحصل. على أن يسير الحشد بحذر على تلك الأرض، فكلها ورود اخوان نبتت من معدن الدماء… هنا غفوا، هنا قوموا، هنا قطرات العرق الندي انسابت على تلك الوجوه السمراء، هنا شهيد، هنا قدم بقيت، هنا أثر، وكل ما في الأرض شهداء…

المراسم بدأت بالدخول إلى المعسكر، فرقة الموسيقى العسكرية تستقبلك وكأنك لواء، أو قائد منطقة تدخل إليها لتشعر بعزة واحترام… طريق طويل مزروع بورود تشبه الملائكة رغم بأسها… هنا آلية عسكرية، هناك عتاد… وجوه لوحتها الشمس بألوان صيف وكأنها تعانق وجناتهم، وحدها العيون تعطيك انطباعاً أن خلف تلك الاقنعة رجال أشداء على الكفار رحماء بينهم…

لغة العيون في ذاك المعسكر بتنا نفهمها إلى حد ما… فلا شيء ظاهر سوى قوة الأجساد والعيون الحادقة. تدرك هناك أنّ كل شيء توقف إلا الكرامة والعزّة والإباء. حتى أنفاسنا بتنا نتلقفها بين طلقةٍ وأخرى، وعند ارتفاع كل دراجة نارية تتوقف دقات القلب خوفاً أن يحصل مكروه…

عيون الصحافيين باتت مشدودة من شدة ما تراه، فالرمشة كانوا يتفادونها خوفاً أن تضيع صورة من ذاكرتهم، أو من عدسات كاميراتهم.

مناورة عسكرية فاقت كل التوقعات، حملت بدلالاتها انكسار وعجز كيان ادّعى أنه الأقوى، فكان أوهن من بيت العنكبوت.

هي المرة الأولى التي استطاع حزب الله أن يجمع بين “الإعلام والعسكر” بشكلٍ متواز وكبير، فسخّر قدراته (العلاقاتية والإعلامية) في سبيل إظهار جزء بسيط من قدرته العسكرية وقوته الدفاعية، فكانت المناورة العسكرية مادةً دسمة تناولتها وسائل إعلامٍ فاق عدد إعلامييها عن 600 إعلامي، من بينهم حوالي 75 إعلامياً اجنبياً من مختلف الجنسيات، لتكون هي المرة الأولى التي يجتمع فيها هذا الكم الهائل من الإعلام بموازاة عمل عسكري، واستعراض رجال يلبسون الزي العسكري، ويظهرون بعضاً من قدراتهم الجسدية التي فاقت الخيال، وكأنك تشاهد فيلماً من الأفلام الهوليودية، ولولا أن المشاهد حية مباشرة لقيل عنها إنها تمثيل محترف لنخبة من الأبطال.

بالذخيرة الحية التي هزّت أرواح الحاضرين، كما هزّ ارتدادها كيان العدو على مقياس 10 ريختر، ابتدأ العرض ليحاكي عملية الأسيرين، واقتحام موقع تشبيهي للعدو الصهيوني. وتكتمل الصورة بروح “العماد” الذي كان حاضراً في كل وجه من تلك الوجوه التي ينسدل القناع أمامها.

بين الإعلام والعسكر، تناغمٌ كبير. فذخيرة الإعلام هي التخطيط والتركيز على أهداف معينة، لتكتمل الصورة ببانوراما إسمها ”سنعبر”…

استطاع ”الرجل”، مسؤول العلاقات الاعلامية في حزب الله الحاج محمد عفيف، أن يصنع الخبر، وأن يناور مع العسكر، لتكتمل ذخيرة اسمها إنجاز، بل تحرير جديد، وكسر مخاوف وقيود بعد 23 سنة، اسمها لا خوف ولا تراجع بل إقدام وكرامة.

“محمد عفيف”، الذي تجاوز كل البيروقراطيات، وصنع بخبرته وحزمه وتصويبه الدقيق على الهدف، عملاً متكاملاً مع العسكر، ليكون إنجازاً فاق نظيره بين الجيوش المنظمة التابعة للدول العظمى.

أصبحت الفكرة مشروعاً، والمشروع هدفاً، والهدف إنجاز باتت اصداؤه تتردد في أروقة الكيان الخائب، ليكون أمام طاولة مستديرة تناقش حولها تساؤلات ودراسات عدة أهمها: كيف استطاع حزب الله أن يبث الرعب في قلوب الأعداء، وأن يبعث الطمأنينة في قلوب من أحبه او من اعتبر نفسه مواطناً في هذا البلد؟

تناغم الاعلام والعسكر في المناورة الحية كانت تمشي على قدم وساق، رغم ان العقل الإعلامي يختلف عن العقل العسكري. لكن مسؤول العلاقات الإعلامية، بحنكته واطلاعه على خفايا الحرب النفسية، استطاع أن يخترقَ الكثير من العقبات. فِكر فذّ، ارادةٌ صلبة، وحكمةٌ، ورؤية بعيدة المدى إلى ما بعد بعد تل أبيب، لتصل الصواريخ الدقيقة إلى عمق كيانهم، فلا شيء يُشبه أرض المعركة سوى تلك الدماء التي بقيت هناك تعبق برائحة الدم والبارود والإباء، فامتزجت الصورة الإعلامية مع الفكر العسكري، لتظهر قوة حزب الله الحقيقية، بل بالأحرى الجانب الذي هو على هامش المعركة الحقيقية.

بكل تأكيد، الرجال القادة تلقفوا المبادرة والفكرة والمشروع. بنوا مدماكاً أظهر بأس “العماد” و”ذو الفقار”، ليخبروا الجميع أنهم قوم لا يهزمون، وأنهم أصحاب عقيدة لا تبالي أوقعوا على الموت أم وقع الموت عليهم.

هم أصحاب قضية بانت في كل شعاراتهم. فلسطين، وتحرير الأرض من دنس الصهاينة حتى آخر شبر من شبعا. قدّموا الجميل من عندهم… هذا غيض من فيض قطرة ندى على زهر الربيع الآتي. هذا بعض من بأسهم، بعض من قدراتهم.

وشوشتنا الأرض أنها رأت أكثر مما رأيناه بكثير، لكن الصدى سيبقى خافتاً إلى يوم لا ريب فيه أنه قادم….

امتلأت جعبة الإعلاميين، كما رؤوسهم، مشاهد لا يمكن أن يراها الإنسان إلا في الأفلام … تظن أن هؤلاء أساطير لا يمكن أن تحكى.. أبطال لا يمكن إلا أن نراهم في الأفلام الهوليودية. أثبت رجال الله في عرضهم ومناورتهم العسكرية، أنهم أبطال حقيقيون، يجتازون العوائق، يسافرون كالنسر في السماء، يحلّقون بدراجاتهم ويهبطون بسلام…

اثبت رجال الله أن قدراتهم الجسدية فاقت قدرات “جاكي شان” و”بروس لي”. حلّقوا، تبعثروا، تناثرت خطاهم في كل مكان، كأنهم غزال يتسابق مع الريح. كل شيء فاق قدراتنا العقلية امتلأت القلوب، كما الجعبة، حتى ذاكرة الكاميرا امتلأت بهم… بعيون المها، لتكتب بعد أربعين عاماً أننا عشنا في زمن الانتصارات. عشنا في زمن رجال الله، عشنا في زمن رجال اسمهم حزب الله، وقائدهم نصر الله.. إنهم بكل تأكيد سيعبرون…