/ دايانا شويخ /
تبدو المعادلة المعكوسة مثيرة للجدل. تايوان جزيرة منفصلة عن الدولة الأم، والصين التنين العملاق ذات القوة العسكرية الاقتصادية العالمية. الفروقات واضحة، ولكن السؤال هنا، لماذا هذه القوة المهيمنة لا تندفع وتشن حرباً على الجزيرة التي تدعي انها جزء لا يتجزأ منها، ونحن نسمع منذ اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا أن الصين ستتخذ الغزو الروسي نموذجاً لحسم الصراع حول تايوان، خصوصاً ان تايوان معترف بها كجزء من الصين وليست دولة مستقلة ذات سيادة مثل أوكرانيا.
كل ما يمنع الصين عن اللجوء إلى الخيار العسكري لضمها، هو اتفاق “جنتلماني” مع أميركا، خلال التفاهم التاريخي الذي جمع البلدين مع زيارة الرئيس الأميركي للصين عام 1971 ولقائه بزعيمها آنذاك ماو تسي تونغ ورئيس وزرائها تشي أون لاي، وعقده اتفاقاً، مضمونه أن تلتزم واشنطن بصين واحدة فتسحب اعترافها بتايوان، وتساعد في حصر تمثيل الصين في الأمم المتحدة بمقعد واحد لبكين، مقابل التزام بكين بعدم ضم تايوان بالقوة المسلحة.
وها هي زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي إلى تايبي، عاصمة تايوان، تخرق مبدأ الصين الواحدة أميركياً، وتقدم لبكين العذر او الذريعة للتنصل من التزامها بعدم ضم تايوان بالقوة، والمناورات الصينية حول تايوان تقول ان الخيار العسكري على الطاولة، لكنه لا يتقدم، فما هي القطبة المخفية إذاً؟
الصراعات المشتعلة مع دول الجوار
أصبح المحيط الهادئ خشبة تتناحر عليه الدول المتجاورة فيه، لإبراز قوتها، وغابت عنه سمة الهدوء التي كان يتّصف بها، وخصوصاً بين الصين واليابان من جهة وبينها وبين تايوان من جهة أخرى. فالحدود البحرية وملكية الجزر، شكلت أساس الصدامات بين الدول، بخاصة أن الصين أدركت أهمية القوة البحرية كي تحفظ أمنها واستقرارها. الا ان الصين في الوقت عينه، تتفادى ما سيتسبب به التصعيد من اشتعال حروب في البحار التي تشكل المدى الحيوي للتجارة، خصوصاً خطر اندلاع حرب مع اليابان، القوة الاقليمية المجاورة وذات التاريخ العدائي، والتي ستتحرك إذا تم تنظيم عمل حربي صيني ضد تايوان.
ومنذ تولي الرئيس الصيني شي جين بينغ الحكم العام 2012، بدأ يتبع سياسات أكثر حزماً مع الدول المجاورة، وذلك بناء على سعيه في ترسيخ الصين كقوة عظمى تحتل مكانة عالمية. فقد اتخذت الصين خطوات تصعيدية أكثر جرأة في سياساتها مع الدول المحيطة، من بحر الصين الجنوبي إلى الحدود الصينية الهندية في جبال الهيمالايا.
ويمكن أخذ اليابان كمثال من الدول التي لم تسلم تاريخياً من الحروب مع الصين، كالحرب الاولى العام 1894 والتي جنحت حكومة تشينغ الصينية آنذاك للسلم في فبراير 1895، وانتقلت السيطرة الإقليمية في شرق آسيا، وللمرة الأولى، من الصين إلى اليابان. والحرب الثانية العام 1937، والتي انتهت الصراعات الدموية خلالها بين الجانبين بعد أكثر من ثماني سنوات.
أما الصراع اليوم فهو حول سلسلة الجزر غير المأهولة، والتي تعرف باسم جزر سينكاكو في اليابان وجزر دياويو في الصين، وتقع على بعد 1200 غرب طوكيو وتطالب بها الصين التي تزعم انها تعود الى القرن الخامس والعشرين ميلادي عندما تم استخدامها كنقطة انطلاق للصيادين الصينيين. بينما تؤكد اليابان، وفقاً لدراسة استقصائية العام 1885، أنها لم ترَ أي أثر للسيطرة الصينية على الجزر. وتفاقمت المشكلة العام 2012 على الرغم من أن اليابان تدير الجزر منذ السبعينيات، إلا انه بعد أن اشترت الحكومة اليابانية الجزر رسميًا من مالكها الياباني الخاص، أدى ذلك إلى حدوث احتجاجات كبيرة لم تشهدها المدن الصينية منذ سنوات.
هذه العيّنة من الخلافات والتوترات القديمة ـ المتجددة، دفعت بكين برئاسة شي إلى زيادة حجم الجيش وميزانيته لحماية السيادة الوطنية والأمن. وهو ما يضعها في منطقة التراجع من شن أية حرب جديدة، خاصة على تايوان، كي تتفادى هذه العدائية المجاورة لها، بخاصة التي تقع تحت رعاية الولايات المتحدة التي تعتبر على الضفة الأخرى من الجبهة المشتعلة.
القلق الاقتصادي
خلال عقدين منذ مطلع القرن الواحد والعشرين، والعالم يتحدث عن ظاهرة الصعود الصيني الاقتصادي، وتحول التنين الصيني إلى قوة اقتصادية جبارة تنافس في الصناعات الثقيلة الدول التي تربعت على عرشها منذ قرن مضى، كأميركا والمانيا واليابان، وتحتل نِسَباَ متقدمة في الصناعات العالية الجودة والتقنيات المعقدة، ولم يؤثر ذلك على تحقيق الصين لنسبة نمو متصاعدة قاربت ال 10% سنويا بصورة أذهلت المراقبين في ظل عدد سكان ضخم يقارب مليار ونصف مليار نسمة، يشكل إطعامهم بحد ذاته معجزة.
ولأن الصين تذوقت طعم الصعود، فهي لن تفرط به بسهولة، ولن تنجرف للتحديات واغراءات لعبة القوة على حساب مواصلة الصعود، خصوصاً أن خطتها المسماة بـ”الحزام والطريق”، تتقدم وتنجح باستقطاب شركاء جدد في آسيا وأفريقيا وأوروبا، وبكين تعتقد انها لا تحتاج إلا للمزيد من الوقت الهادئ لتكمل دورة الصعود.
ما يدفع الصين للتردد في أي مواجهة عسكرية واعتماد الردع والرسائل العسكرية والاحتواء السياسي، من دون التورط بالحرب، أن مسارها الاقتصادي يحتاج مزيداً من الهدوء، بعدما شهد الاقتصاد الصيني تراجعاً ملحوظاً في نموه، حيث نما بأبطأ وتيرة منذ عامين بنسبة 0.4 في المئة في الربع الثاني من العام، بسبب القيود الصحية وفرض سياسة صفر كوفيد بالإضافة إلى ازمة العقارات.
ومنذ 2020، اتبعت الصين سياسة صفر كوفيد لتجنب حدوث إصابات جديدة، بفضل إجراءات العزل المحددة والفحوصات المكثفة. وتوقع محللو شركة “نومورا” أن تفويضات الفحوص الجماعية وحدها قد تكلف ما يصل إلى 2.3% من الناتج المحلي الإجمالي السنوي. وقالت “نومورا” إن فحص نصف سكان أكثر دول العالم اكتظاظاً مرة كل 3 أيام سيكلف حوالي 0.9% من الناتج المحلي الإجمالي. ويخشى خبراء من أن خطة سياسة صفر كوفيد الصارمة، ستؤثر بشكل كبير على ثاني أكبر اقتصاد في العالم.
وأظهرت بيانات رسمية للمكتب الوطني للإحصاء، أن الناتج المحلي الإجمالي في الصين، توسع بنسبة 0.4% فقط خلال الربع الثاني من العام الجاري، مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي. وكان هذا أقل بكثير من الزيادة البالغة 4.8% التي سجلها في الربع السابق. وعلى أساس ربع سنوي، انكمش الناتج المحلي الإجمالي للصين بنسبة 2.6% في الربع الثاني من العام 2022.
ان هذا التراجع الملحوظ الذي شهده الاقتصاد الصيني، يضع بكين في حالة من القلق الذي يبعدها عن التفكير في الخوض في اية معركة محتملة مع دول الجوار ومنها الولايات المتحدة، بالرغم من احتلال الجيش الصيني للمرتبة الثالثة عالمياً وفقا لمؤشر القوة العسكرية. لذا الانخراط بأية عمليات عسكرية سيزيد الطين بلة، وسيؤثر على الحركة الاقتصادية والتجارية، وسيحد من الصادرات مع دول العالم. كما ان الصين فضلت طوال العقود الماضية المضي قدما بنمو هادئ لقوتها، والرهان على التراجع الهادئ للقوة الاميركية لخلق مناخ اقليمي يجعلها مرجعاً مقبولاً من جيرانها، بما فيهم خصومها، كتايوان واليابان، وتتخذ من تجربتها باستعادة هونغ كونغ مثالاً لنجاح أسلوب الاحتواء السلمي، وتقدمها مثالاً لتسامحها مع خصوصية المقاطعات المنفصلة عنها، لإقناع تايوان بمزايا الانضمام، من دون خسارة ميزات استقلالية كثيرة.
السلام مع تايوان
إن إعادة توحيد تايوان مع الصين “أمر حتمي” حسبما تصرح الخارجية الصينية دوماً، لكن هل تتبع الصين السياسات السلمية لضم الجزيرة لها، مع الحفاظ على تحقيق الاستقرار مع تايوان، عوضاً عن الخوض في صراعات اقليمية واستعادتها بالقوة؟
يبدو أن الصين في الوقت الراهن بعيدة كل البعد عن انتهاز سياسة العدوان ضد تايوان، على الرغم من قوتها العسكرية التي لمعت في العشرين سنة الماضية. إلا ان بكين، على الرغم من التدريبات والمناورات العسكرية التي تقوم بها رداً على زيارة رئيسة مجلس النواب الاميركي نانسي بيلوسي إلى تايبيه، واعتبارها حركة استفزازية بوجه الصين، توجه رسالة إلى الولايات المتحدة من خلف تلك العمليات العسكرية، مفادها أن تايوان ستبقى جزءاً من جمهورية الصين، وستضمها، بعيداً عن كل التحالفات السياسة الخارجية التي هدفها الوقوف في وجه قوة عظمى كالصين في العالم.
الصراع الدائم اذن، سيستمر طالما بقيت الولايات المتحدة خلف اشعال الصراعات بين دول العالم. إلا أن الصين تبدو كرجل حكيم يبتلع هذه الاستفزازات ويرد في الوقت المناسب بالطريقة المناسبة. وستستخدم الغموض الاستراتيجي هي الاخرى لضم تايوان في نهاية المطاف. لذلك قد يكون السؤال الذي يبحث عن جواب، ليس ما إذا كانت الصين ستشن الحرب على تايوان، بل ما إذا كانت تايوان ستشن الحرب على الصين؟