“القمّة من أجل الديمقراطية” تتجاهل العالم العربي!

بين فيشمان (*)

عن “معهد واشنطن”

ترجمة

بهدف معالجة فجوة الديمقراطية في المنطقة، يتوجب على واشنطن تطوير مجموعة متناسقة من الرسائل حول أهداف الإصلاح، ومساعدة شركائها في التركيز على الأهداف القابلة للتحقيق مثل حماية حرية التعبير والمعارضين والمجتمع المدني.

تستضيف إدارة بايدن في 9 و10 كانون الأول/ديسمبر قمة افتراضية من أجل الديمقراطية ستشكل فرصة لإظهار “كيف يمكن للحكومات أن تستمر في خدمة المواطنين وسط ازدياد الاستبداد والشعبوية عالمياً”. ومن أجل تحقيق هذه الغاية، سيُطلب من الدول المشاركة تقديم التزامات حول مكافحة الفساد والتصدي للاستبداد وتعزيز حقوق الإنسان، مع التركيز على التدابير الأولية التي يمكن تنفيذها قبل انعقاد القمة حضورياً في عام 2022 أو 2023.

تجدر الإشارة إلى أنه، من بين الدول الـ 110 التي دُعيت من جميع مناطق العالم، اختيرت دولة واحدة فحسب من العالم العربي. فبعد مرور أكثر من عقد على الربيع العربي، تشكل القمة دليلاً على فشل تلك الحركة، وإقراراً بعودة الاستبداد وقوته في الشرق الأوسط. وتشكل “إسرائيل” واحدة من دولتين فحسب من المقرر أن تحضرا من تلك المنطقة.

وما زال الصراع الأهلي المتواصل يمزّق المدعو العربي الوحيد، أي العراق، فيما استُبعدت تونس من القائمة بعد أن زعزع انتزاع الرئيس قيس سعيد السلطة في تموز/يوليو أفضل احتمال لتحقيق ديمقراطية دستورية عربية سليمة في المنطقة. ومع ذلك، توفر القمة فرصة لواشنطن وشركائها الديمقراطيين لإعادة الالتزام بتعزيز الإصلاح والحكم الرشيد والحريات الفردية وحقوق الإنسان في الشرق الأوسط.

قياس حجم الفشل عبر التاريخ

إنّ أوجه القصور في إرساء الديمقراطية العربية موثّقة بشكل جيد عبر السنوات العشرين الماضية. حيث أشار “تقرير التنمية الإنسانية العربية” لعام 2002 إلى الحريات السياسية المحدودة والافتقار إلى تمكين المرأة ونقص المعرفة كعقبات أساسية أمام تقدم المنطقة. وبعد عامين على صدور التقرير، أصدر وزراء الخارجية العرب بياناً مشتركاً التزموا فيه بتوسيع المشاركة وصنع القرار في المجالين السياسي والعام، ودعم العدالة والمساواة بين المواطنين جميعهم، واحترام حقوق الإنسان وحرية التعبير، وضمان استقلال القضاء، وتعزيز دور المرأة في المجتمع. وعبر القيام بذلك، أقروا بشكل أساسي بأن العوامل الخارجية مثل حرب العراق أو النزاع الإسرائيلي الفلسطيني لم تكن مصدر مشاكل المنطقة. ولكن على الرغم من طموح جدول أعمالهم، بقي التقدم المُحرز في السنوات التي سبقت انتفاضات عام 2011 محدوداً جداً.

بعد الحماس الأولي الذي شهدته احتجاجات “الربيع العربي”، استجابت عدة حكومات إلى الاحتجاجات عبر تنفيذ تدابير كانت تهدف كلياً أو جزئياً إلى تفادي حدوث أي تغيير عميق، وشملت ممارسة المزيد من القمع (كما في البحرين ومصر)، أو إجراء إصلاح محدود (كما في الأردن والمغرب)، أو الأسوأ من ذلك حتى، مثل اندلاع الحرب الأهلية (كما في ليبيا وسوريا واليمن).

وفي العقد الماضي، اتخذت تونس وحدها بعض الخطوات التي حسّنت درجة النقاط التي سجلتها في تقييم منظمة “فريدم هاوس” (بيت الحرية)، باستثناء بعض الأحداث الانتخابية المبكرة التي شهدتها مصر وليبيا بعد وقت قصير من حركات الاحتجاج الجماهيري في عام 2011. وقد شهدت بلدان أخرى جموداً أو حتى تراجعاً في درجة النقاط المسجلة. فعلى سبيل المثال، تحتل مصر الآن مرتبة أدنى مما كانت عليه في خلال العام الأخير من حكم حسني مبارك.

حتى أن أرقام منظمة “فريدم هاوس” الخاصة بالشرق الأوسط صادمة أكثر عند مقارنتها ببقية العالم. فتعطي هذه المنظمة نقاطاً للبلدان يصل مجموعها إلى مئة، وتمنح ما يتراوح بين نقطة وأربعين نقطة لتقييم الأداء في مجال الحقوق السياسية، وبين نقطة وستين نقطة لتقييم الحريات المدنية. وفي الفترة المتراوحة بين عامَي 2011 و2021، كان متوسط النقاط للبلدان العربية 27 فحسب، وينخفض هذا الرقم إلى 25 من دون احتساب أداء تونس الاستثنائي.

وسجّل العراق، الذي يمثّل وحده العالم العربي في “القمة من أجل الديمقراطية”، 29 نقطة هذا العام، وهو مجموع تعتبره المنظمة دليلاً على “غياب الحرية”. وفي المقابل، بلغ متوسط النقاط العالمية 56 نقطة لعام 2021.

نسب العلماء عودة الاستبداد منذ الربيع العربي إلى عدة عوامل هي: السمات الخاصة بحكومات المنطقة، وعلاقاتها بقوات الأمن التي تحميها، وغياب القيادات في عدة حركات معارضة، وواقع أن السلطات كانت قادرة على استعادة السيطرة على جزء كبير من المساحة الرقمية المستخدمة لتنظيم احتجاجات عام 2011، وتدخّل الجهات الفاعلة المناهضة للديمقراطية، والانهيار في بعض الحالات الذي أدى إلى اندلاع حرب أهلية. ووفقاً لمنظمة “فريدم هاوس”، جعلت هذه العوامل المنطقة ككل أقل حرية بمعدل ست نقاط مما كانت عليه في عام 2013.

ما الخطوات التي تستطيع واشنطن أن تتخذها؟

ستواجه السياسة الخارجية الأميركية دائماً التناقضات بين المصالح والقيم، لا سيما في الشرق الأوسط، حيث تتواجد عدة دول تنتهك باستمرار حقوق الإنسان وهي نفسها التي تعتمد عليها واشنطن كشريكة في مبادرات الأمن والطاقة والسلام. وتملك الولايات المتحدة آداتين أساسيتين لتخفيف حدة هذه التناقضات والترويج لقيَمها الخاصة بالإصلاح والديمقراطية وحقوق الإنسان، وهما:

 (1) الدبلوماسية بما فيها الرسائل العامة والخاصة.

 (2) وبرامج المساعدة لإعانة المصلحين والنشطاء والحكومات المنفتحة على هذه القيم.

سعت واشنطن قبل “الربيع العربي” مباشرة، إلى التشديد على الحاجة لتنفيذ الإصلاحات في أنحاء الشرق الأوسط من أجل تلبية المطالب المتنامية لمواطني المنطقة. وكما كتب الرئيس الاميركي السابق باراك أوباما في مذكراته، “بموجب الخطة الحالية، يُتوقع من المسؤولين الأمريكيين عبر الوكالات إيصال رسالة متسقة ومنسقة حول الحاجة إلى الإصلاح، فيضعون توصيات محددة لتحرير الحياة السياسية والمدنية في مختلف البلدان ويقدمون مجموعة من الحوافز الجديدة لتشجيع تبنيها”.

وكان المفهوم الرئيسي هو انسجام الرسائل عبر أجزاء الحكومة كلها، بما فيها وزارة الدفاع ووكالات الاستخبارات، وهي عموماً الأقل ميلاً للتركيز على قضايا الإصلاح بسبب طبيعة علاقاتها مع الجهات الفاعلة الأجنبية. إلا أن هذه القنوات هي غالباً الأهم لأن تأثير المسؤولين العسكريين ومسؤولي الاستخبارات الإقليميين غالباً ما يكون أكبر بكثير من تأثير الدبلوماسيين. وعلى أي حال، سرعان ما حلّت إدارة الأزمة مكان مشروع خطة أوباما، وأصبح التركيز الطويل المدى على الإصلاح بعيد الاحتمال.

بالنسبة إلى القمة القادمة و”عام العمل” المقترح فيها، على الولايات المتحدة إعادة الانخراط في هذه القضايا عبر التركيز على الأهداف الأكثر قابلية للتحقيق. وتشمل هذه الأهداف تحسين حرية التعبير وحماية الصحافيين والنشطاء في البلدان الشريكة – لا سيما في مصر والأردن والمغرب، التي تزايدت فيها مؤخراً حملات القمع. وسيتطلب إجراء هذه التحسينات بعث رسائل متواترة وعالية المستوى إلى كبار المسؤولين الإقليميين.

وقد دعا فريق عبّر عن رأيه في الكونغرس الاميركي ومجتمع حقوق الإنسان إلى استخدام مبيعات الأسلحة كوسيلة ضغط للإجبار على إحراز تقدم في مثل هذه المسائل. ومع ذلك، تقلّ الأدلة التي تشير إلى أن هذا النهج يُترجَم إلى مزيد من الحريات، وهو يتعارض مباشرةً مع الأهداف الأمنية الجوهرية لإدارة بايدن في المنطقة – لا سيما تلك المتعلقة بمكافحة التعديات العسكرية الإيرانية، وانتشار الأسلحة، والأنشطة الأخرى المزعزعة للاستقرار. وفي الإطار الزمني القصير الذي يسبق القمة المقبلة، سيكون النهج الأكثر فاعلية وقابلية للتحقيق هو “الحفاظ على اتساق الرسائل بشأن الأهداف الخاصة بكل بلد والمتعلقة بحرية التعبير والمجتمع المدني والحوكمة”.

إعادة تقييم تمويل المساعدة وزيادته. تشكل المساعدة في مجال الديمقراطية جزءاً صغيراً جداً من المساعدات الخارجية الاميركية، لا سيما في الشرق الأوسط، حيث يذهب معظم التمويل إلى القوات العسكرية في مصر وإسرائيل، وبنسبة أقل في الأردن والعراق. وفي عام 2019، شكلت البرامج التي تهدف إلى تشجيع الشركاء على “الحكم بشكل عادل وديمقراطي” أقل من 3.5 في المئة من إجمالي المساعدات الأميركية للمنطقة – وهي نسبة تتوافق مع متوسط 3.9 في المئة الذي شهدته السنوات المالية المتراوحة من 2003 إلى 2019. وخلال الفترة نفسها، تم تخصيص حوالى 25 في المئة من المساعدات غير المتعلقة بالأمن لبرامج الديمقراطية.

وفّرت الولايات المتحدة بين عامَي 2003 و2019، إجمالي 5.37 مليار دولار في المساعدات في مجال الديمقراطية إلى المنطقة و1.9 مليار دولار بعد الربيع العربي. واقتصرت هذه البرامج على عشرة متلقين في خلال العقد الماضي هم: مصر والعراق والأردن ولبنان والمغرب وتونس واليمن، إلى جانب ليبيا وسوريا والضفة الغربية/غزة في خلال فترات معينة. أما الدول المتبقية في الشرق الأوسط فإما ترفض قبول مثل هذه المساعدة، وإما تكون ثرية جداً فلا تستطيع الحصول عليها قانونياً.

تُعنى دراسة مستقبلية سيُجريها “معهد واشنطن” عن كثب بالبرامج الأميركية التي تدعم منظمات المجتمع المدني والانتخابات والمؤسسات كالهيئات التشريعية والبلديات، وغيرها. لكن لتحقيق أغراض قمة هذا الأسبوع، وعلى ضوء سجل المنطقة، يتضح تماماً أنه ينبغي إعادة تقييم محتويات هذه البرامج. وعلاوة على ذلك، لا بد من التدقيق في التداخل الفعلي بين الحكم الرشيد والإصلاحات الاقتصادية والديمقراطية في الشرق الأوسط. وتريد الإدارة الإثبات أنه بإمكان الدول الديمقراطية أن تحقق أهدافها من خلال التشديد على أهمية جهود مكافحة الفساد. ولكن تسجّل الإمارات العربية المتحدة وقطر أعلى نقطتين في الشرق الأوسط – وهما من بين الأعلى عالمياً – في “مؤشر مدركات الفساد” التابع لـ “منظمة الشفافية الدولية”، ومع ذلك لا تزالان من أقل البلدان حرية في المنطقة.

من أجل معالجة هذه التناقضات والفجوة العامة في الديمقراطية في الشرق الأوسط، على الولايات المتحدة تطوير رسائل متسقة حول أهداف الإصلاح خلال العام المقبل، فتساعد بذلك شركائها الإقليميين على التركيز بدايةً على حماية حرية التعبير والمعارضين والمجتمع المدني. ويجب أن تقيّم واشنطن أيضاً برامج المساعدة في مجال الديمقراطية وتوسّعها بشكل مناسب. وحين تنعقد “القمة الثانية من أجل الديمقراطية”، يجب أن يكون الهدف منها ضم أكثر من دولة عربية واحدة.

(*) بين فيشمان: مساعد باحث سابق في “معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى”