لبنان الذي يستقبل وافديه وسياحه “بأهلا بهالطلة” مستعيراً هذه الجملة من أغنية للفنانة صباح، أمل رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي أن لا نصل إلى أغنية للفنانة نفسها وهي “عالصفورية يا بيي”..
ربما صدق الرئيس ميقاتي، فاللبنانيون باتوا نزلاء في عصفورية كبيرة تتوزع على أقسام إستشراء الغلاء و فقدان الدواء وصعوبة الإستشفاء ونار المحروقات وعتمة الكهرباء والرواتب المتآكلة تحت سيطرة دولار السوق السوداء.
ولنضف إليها كل مقومات الحد الأدنى للعيش في دولة مؤسسات يتفيأ تحت مظلتها المواطن وعكس ذلك نكون فعلاً في “عصفورية”.
في الستاتيكو الحكومي، الوضع على حاله، لا موعد ولا زيارة إلى بعبدا، “وبس اطلع بتعرف” رد ميقاتي على سؤال بهذا الخصوص من الـNBN.
اما في ستاتيكو المنطقة رئيس وزراء العدو يزور منصة كاريش في محاولة لحفظ ماء الوجه الاسرائيلية باعلان الجهوزية ضد اي تهديد يمس بالسيادة الاسرائيلية وفق ما قال.
وابعد من لبنان ايضا المنطقة تسير على خط ترتيب قمتين: جدة وطهران بدء من مستقبل العالم على ايقاع الغاز وما بينهما من ملفات لا تبدأ من سوريا ولا تنتهي بالصين.
ندما تقررُ المنظومة السياسية الفاسدة مواصلةَ الهربِ الى الامام من مواجهةِ الاساسيات، تطفو على سطح المستنقع السياسي الذي يتخبطُ فيه اللبنانيون قضايا أخرى، تُلهي الناس لأيام، لكنَّها لا تلبُث أن تختفي، من دون أن يفهمَ أحدٌ لماذا طرأت وكيف اختفت.
وتكفي مراجعة بسيطة لأرشيف الأخبار في الأسابيع القليلة الماضية، لتشكل دليلاً واضحاً إلى ملء الفراغ بملفاتٍ من هذا النوع، قد تكون مهمة، لكنها ليست في أيِّ حال أكثرَ أهمية من الاستقرار السياسي المهدد، والانهيار الاقتصادي الدائم، والأزمة المالية ومتفرعاتِها التي تدورُ في حلقتِها المفرغة طبقة سياسية كاملة، بلا أيِّ أفق للحل.
هكذا جرى قبل أيام في ملف بلدية بيروت، حيث استفاقَ البعض على الوحدة الوطنية ورفض التقسيم، وهكذا حصل قبلها عندما طُرحت مسألة حقوق المثليين، وهكذا دواليك: مواد دسمة للبرامج الحوارية ومواقع التواصل على مدى أيام، ثم ينتهي الموضوع، وكأن شيئاً لم يكن.
هذا في العام. أما في الخاص، فقد برزت في الساعات الاخيرة قضية جديدة تمثلت بتوقيف راعي ابرشية القدس والاراضي المقدسة والمملكة الهاشمية المطران موسى الحاج على خلفية نقل أموال وأدوية من فلسطين المحتلة.
وفيما عقد مجلس المطارنة الموارنة اجتماعاً استثنائياً في الديمان لمتابعة الموضوع، لفتت الصراحة البالغة التي خاطب بها التيار الوطني الحر اللبنانيين والمعنيين بالملف، حيث قال النائب جبران باسيل: صحيح أن القانون اللبناني يحرِّم نقلَ الأموال من الأراضي المحتلة ويعتبره جرماً، ولكن هل في ذهن أحد ان يعتبر مطراناً عميلاً لأنه يحاول مساعدة عائلات تمّ افقارُها على يد منظومة سلبت اموالَ كل اللبنانيين؟ وبأي خانة يوضع تهريبُ الزعماء العملاء لأموالِهم الى الخارج وسرقة أموال المودعين وجنى عمرِهم؟ وبأي خانة توضع حماية ومكافأة العقل المدبّر والحاكم لأكبر عملية سطو جماعي بتاريخ لبنان والبشرية؟
وكان التيار دان في بيان التعرض للمطران الحاج، وطالب بالمبادرة فوراً الى تصحيح الخطأ الجسيم الذي ارتُكب في حقه، معتبراً أن مهام المطران الحاج الرعوية لا تنفصل عن أهداف الكنيسة الحاضنة لكل أبنائها، ولا تحتمل لا تأويلاً ولا مصادرة، فكيف إذا كان يهدف إلى مساعدة لبنانيين أفقرَهم زعماء تآمروا عليهم وسرقوا أموالَهم وسلبوا مستقبلَهم، يغطّيهِم قضاةٌ متخاذلون ومسؤولون متواطئون ومتورطون حتى النخاع، ختم بيان التيار. غير ان بداية النشرة لن تكون من الاخبار السلبية، بل من الايجابيات، وفي صدارتِها اليوم الانتصار الرياضي اللبناني على الصين.
فوقَ كاريش ارتفعَ العويلُ الصهيونيُ معَ تآكلِ المهلِ وضيقِ الخيارات، فاصواتُ مُسيَّراتِ حزبِ الله لا تزالُ تُربكُ العقولَ الامنيةَ والسياسيةَ العبريةَ، ومعادلاتُ الامينِ العامّ لحزبِ الله تُقيِّدُ آمالَهم..
فبينَ استجداءِ الاميركي للاسراعِ بتسويقِ اتفاقٍ معَ لبنان، والبحثِ عن خياراتٍ لابعادِ منصةِ استخراجِ الغازِ في كاريش خارجَ المنطقةِ المتنازعِ عليها، يتركزُ البحثُ الصهيوني. لكنهم مشتبهونَ لانَ المعادلةَ التي رسمَها سماحةُ السيد حسن نصر الله في غايةِ الوضوح، وخلاصتُها لا نفطَ لاحدٍ اِنْ مُنِعَ لبنانُ من نفطِه، وما بعدَ بعدَ كاريش لُبُّ المعادلة.. فهل عَدَلَ الاسرائيليُ عن عدوانيتِه وطلبَ من عاموس هوكشتاين العودةَ الى لبنانَ معَ جديد؟ ام اِنها محاولةٌ جديدةٌ للاسعانةِ بالضغطِ الاميركي على اللبنانيينَ المنقسمينَ تحتَ كلِّ الخطوطِ وآخرُها النفطية؟
ومهما كانت الغاياتُ في الكيانِ العبريِّ المؤقت، فانَ توقيتَ الكلامِ عن ضِيقِ الوقتِ قبلَ ايلولَ يَحملُ استشعاراً عبرياً بالخطرِ القادمِ من الشَمالِ ما لم يَتِمَّ الاتفاق، وعليهِ استفاقَ يائير لبيد لتذكيرِ الاوروبيينَ والاميركيينَ بأنَ في كاريش كمياتٍ هائلةً من الغازِ القادرِ على حلِّ جزءٍ من ازمةِ الطاقةِ العالميةِ على زعمِه ويجبُ استخراجُه..
لكنَ راعيَهُ الاميركيَ ما زالَ يكابر، اما الاوروبيُ فلا طاقةَ له على تحمُّلِ الازمةِ التي لن يَحُلَّها الا الغازُ الروسي.. غازٌ باتَ ضَخُّهُ بحاجةٍ الى مصافٍ سياسيةٍ جديدةٍ معَ التطوراتِ التي اَوصلت الاوروبيَ والاميركيَ الى عُنُقِ الزجاجة..
ولعلَّ الاعناقَ التي اشرأَبَّتْ بالامس – من واشنطن الى تل ابيب وما بينَهما مساحاتٌ اوروبيةٌ وخليجية – لتَستمِعَ الى مُقرَّراتِ القمةِ الروسيةِ الايرانيةِ التركيةِ في طهران، خيرُ دليلٍ على ما يَعصِفُ بالعالمِ من تطورات، ولا قدرةَ لاحدٍ على وقفِها ..
اما في لبنانَ فكلُّ شيءٍ متوقفٌ مكانَه، وكلُّ الترقيعاتِ في العجلاتِ السياسيةِ لم تُحرِّك المساراتِ الحكوميةَ الضرورية، فيما العُصفوريةُ التي اَطربت البعضَ اليوم، معلومٌ انها احتاجت الى اوركسترا كبيرةٍ من ملحنينَ وموزعينَ اَنتجوا ابشعَ مقطوعةٍ نشازٍ في تاريخِ الوطن، رتَّلَتها على مدى عقودٍ جوقةٌ من السياسيينَ والتجارِ والاقتصاديينَ والماليينَ والاعلاميينَ على مسامعِ اللبنانيينَ وعلى مرأَى العالم، والمايسترو أميركي.
نعم، هذا لبنان.
بما يملك من ارادة، وبالقليل من المقدرات، يقاتل.
يقاتل كما قال قائد منتخب لبنان لكرة السلة وائل عراجي ليعيد الفرح لشعب حزين يناضل في يومياته، لشعب يريد اعادة رفع رايته في كل مكان.
منتخب لبنان في كرة السلة اعاد الفرحة لنا اليوم، فهو غلب العملاق الصيني، واهدى النصر لملايين اللبنانيين في لبنان والخارج، مقابل اكثر من مليار ونصف مليار صيني، واصبح على قاب قوسين من التكلل بالنصر في بطولة آسيا في حال فاز على المنتخب الاردني في المباراة نصف النهائية السبت المقبل.
وكما في الرياضة، يقاتل لبنان، المتعب اقتصاديا والمنهار ماليا.
يتمسك بقدرته على الامل اولا، وعلى الاستمرار في استقطاب السياح وابنائه المغتربين ثانيا.
مطاره الى حيث يفترض ان يصل مليون ومئتي الف راكب في الصيف وحده يواجه.
صحيح ان لا ملايين من الدولارات تغذيه، وان لا مشاريع لتطويره وتحسينه منذ عشرات السنين، لكن الصحيح ايضا ان الحقائب لا تتكدس فيه كما يحصل في اهم مطارات العالم .
صحيح ان رواتب موظفيه لا تكفيهم لاول اسبوع من الشهر ، ولكنهم هنا، على ارض المطار، يكافحون. في وقت اضطر عدد من شركات الملاحة الجوية في بريطانيا والمانيا وسويسرا واسبانيا وهولندا والولايات المتحدة لالغاء مئات الرحلات بسبب النقص في الكوادر المدربة والموظفين والصعوبات المالية.
صحيح ان مواطنيه متعبون.
يعرفون ان المعيشة اصبحت مكلفة لهم، ولكنهم مستعدون لحسن الضيافة لانهم يعرفون ان البلد بالنسبة للسواح الاجانب رخيص.
هم ايضا هنا، يستقبلون السواح بابتسامة.. وينتظرون ابناءهم المغتربين بفرح
يتمسكون بلبناننا.
ببحره حيث لا شمس حارقة ولا حتى في عز الصيف، بجباله حيث برودة الطقس مساء، في وقت تعاني اوروبا من موجات حر ادت الى مقتل اكثر من خمسمئة شخص في اسبانيا وحدها، فيما الحرارة فاقت الخمسين في عدد من دول جوارنا.
نعم هذا لبنان.. ولن ندعه يسقط لا في جهنم ولا في العصفورية.
وسننقله من جمال الى جمال ومن انتصار الى انتصار، حتى نعيده كما نحبه وكما نشتاق اليه we miss Lebanon