/ جورج علم /
لا زلنا في مرحلة “الترسيم”: ترسيم الحدود البحريّة، ترسيم طريق المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، ترسيم التحالفات النيابيّة، ترسيم مواصفات رئيس الجمهوريّة، ترسيم البيانات الإقليميّة والدوليّة الخاصة بلبنان…
المهم أننا لسنا وحدنا. لسنا الفريق “الآمر الناهي”، المستقل، صاحب القرار، بل هناك الوسيط، والدخيل، والناصح، والطامع، وهنك الطرف الآخر الذي يملك المنطق، والحجّة، والقوّة، والدعم.
ولأننا لسنا وحدنا، غاب الوضوح، وزاد الالتباس، والدليل أن أحداً من المسؤولين لا يستطيع أن يجزم متى سيتم ترسيم الحدود البحريّة؟ وكيف؟ ومن هو الرئيس المقبل للجمهوريّة؟ وهل سيكون “صناعة لبنانيّة” مئة بالمئة، أم نتيجة توافقات دوليّة، وإقليميّة، “تخرّج” محليّاً، وتفضي إلى الانتهاء من مرحلة ترسيم “البروفيل”، الى مرحلة تظهير الصورة؟
لا يمكن التقليل من الشأن الداخلي، قيادات ورؤساء كتل وأحزاب، لكن الأهليّة منقوصة، كل طرف له “لاقط”، يلتقط من خلاله “ذبذبات” الخارج، ويحاول أن يعمل على ترجمتها على أرض الواقع. وكل طرف ينتظر وحيه الخارجي، ليقفز من مربع الانتظار، إلى مربع التنفيذ.
لم يشارك لبنان في “قمّة جدّه للأمن والغذاء”، ولم توجّه إليه الدعوة أساساً، ومع ذلك خصّه البيان الختامي بفقرة غنيّة بالرسائل، وإن دلّ ذلك على شيء، فعلى مدى أهميّة “الاستثمار الدولي” بهذا الـ”لبنان”.
لم يشارك لبنان في العديد من القمم العربيّة المصغّرة، سواء تلك التي استضافتها بغداد، أو التي عقدت بشرم الشيخ، أو عمّان، ولا حتى في النشاطات التي ترسم مستقبل المنطقة، ومع ذلك جاء العرب إليه بالمبادرة الكويتيّة التي حملها وزير خارجيّة دولة الكويت الشيخ أحمد ناصر المحمد الصباح، لتنقية العلاقات اللبنانيّة ـ الخليجيّة. وجاءه العرب من خلال الاجتماع الوزاري العربي التشاوري الذي استضافته بيروت مؤخراً. وجاؤوه من خلال البيان الختامي للقمة الفرنسيّة ـ السعودية التي عقدت في جدّة بتاريخ الرابع من كانون الأول 2021، ثم من خلال البيان الختامي لقمّة دول مجلس التعاون الخليجي التي استضافتها المملكة العربيّة السعوديّة في22 حزيران الماضي، وأيضاً في البيان الختامي العربي ـ الأميركي الذي توّج محادثات الرئيس جو بايدن في جدّة.
وينوّه البيان الأخير بالدعم العربي للبنان، ويشير إلى ما قدّمه العراق، وما قدّمته الكويت وقطر، من مساعدات، لكن “الدسم” كان في مكان آخر، كان في التأكيد على إجراء الانتخابات الرئاسيّة ضمن المهلة الدستوريّة، والتأكيد على المواصفات المطلوبة للرئيس، والتأكيد على الإصلاحات التي يطالب بها المجتمع الدولي، والتي يفترض أن تشكّل برنامج عمله.
والمفارقة أنه مع صدور البيان، وبالتزامن معه، أعلن البطريرك الماروني بشارة الراعي رفضه أي رئيس “منحاز للمحاور، وعاجز عن تطبيق مبدأ الحياد”. وقال: “نتطلع إلى رئيس يلتزم القضيّة اللبنانيّة، والثوابت الوطنيّة، وسيادة لبنان واستقلاله، ولا يحكم لبنان استناداً إلى موازين القوى، بل إستناداً إلى الدستور، والقوانين، والشراكة”.
وبالتزامن، أعلن قائد “القوات اللبنانيّة” سمير جعجع دعمه لقائد الجيش العماد جوزف عون “إذا كان يحظى بحظوظ لانتخابه رئيساً للجمهوريّة”.
وبالتزامن، بدأ حراك نيابي جدّي تحت شعار “تغيير المسار”، وعلى قاعدة ألاّ يتكرر “سيناريو انتخابات رئاسة المجلس، وهيئة مكتب المجلس، في انتخابات رئاسة الجمهوريّة”.
ويدور حديث في الوسط الدبلوماسي مفاده أن “مواقف البطريرك نابعة من قناعات وطنيّة، وهي تتلاقى مع رغبات فاتيكانيّة، أو على الأقل لا تشكّل تحديّاً لها، أو خروجاً عليها، وهذا التلاقي في المواقف، والرغبات، يبنى عليه، انطلاقاً من العاطفة الخاصة التي يكنّها البابا فرنسيس للبنان، وأيضاً من المصالح الحيويّة لدولة الفاتيكان في الشرق الأوسط، والعالم العربي، انطلاقاً من لبنان”.
أما جعجع، فقد استأثر بكتلة مسيحيّة كبيرة في المجلس النيابي الحالي، وتأييده لقائد الجيش لم يأت من فراغ. للرجل حسابات، ومصالح، وتحالفات، وصداقات خليجيّة، وعربيّة، ودوليّة، كل خطوة يخطوها يحتسب مردوداتها سلفاً، وبالتالي فإن الموقف الذي أعلنه يتناغم إلى حدّ كبير مع مضمون الفقرة التي وردت عن لبنان في البيان الختامي لـ”قمّة جدّة”، حيث كان هناك تركيز واضح على المؤسسة العسكريّة، والدور الذي يضطلع به الجيش اللبناني لضبط الحدود، وفرض الأمن، ناهيك عن السيادة، ووجوب تأمينها من خلال تنفيذ القرارات الدوليّة الخاصة بلبنان، وتحقيق الإصلاحات”.
ولا يغفل الوسط الدبلوماسي “العلاقة المميّزة” التي تربط “القوات” بكل من المملكة العربيّة السعودية، والولايات المتحدة الأميركيّة، وما لذلك من ترابط في تنسيق المواقف أمام الاستحقاقات الكبرى، وهذا يعني ان “مرحلة ترسيم المواصفات قد انتهت، لتبدأ مرحلة تظهير الصورة، والانتقال من التخطيط الى التنفيذ”.
بالطبع لا يمكن إغفال الجوانب الأخرى من المشهد، وهناك قوى أساسيّة، فاعلة في مجلس النواب، وخارجه، لا تلتقي لا مع مواصفات البطريرك الراعي، ولا مع خيارات جعجع الرئاسيّة. قوى لها حضورها، ونفوذها، وتأثيرها، وخياراتها، وهي صريحة بأنها تريد رئيساً للجمهوريّة يشبهها، ويتبنّى مشروعها في لبنان، وخارجه، ويلتقي مع أهدافها الاستراتيجيّة في المنطقة. ولذلك لن تهادن، ولن تتراجع، ولن تفرّط بأي فرصة يمكن أن تخدم مشروعها، وتحالفاتها. ويكفي أنها من خلال مواقفها الصريحة، وخياراتها الواضحة، توجّه ـ ولو بصورة غير مباشرة ـ رسالة عاجلة الى “قمّة جدّة”، مفادها: “إن ما صدر عن لبنان في البيان الختامي، ويجب إقرانه بمبادرة، أو بسلسلة مبادرات إجرائيّة، عملانيّة لتنفيذ مضمونه، وحتى لا يبقى حبراً على ورق”.