/ علاء حسن /
يُعرِّف البعض الحرب على أنها سياسة بلغة عنيفة، وهي تشبه التفاوض في أنها تبتغي تحقيق مكاسب وفرض إرادة الطرف القوي على الضعيف. وللحرب مستويات، تبدأ بالمناوشات، وتمرّ بالعمليات العسكرية الواسعة النطاق، وصولاً إلى الحرب الشاملة.
إلاّ أن هناك نوعاً آخر من المناوشات غير المنظورة التي لا تدخل عادة في حسابات الحرب، لكونها غير متبناة في أغلب الأحيان، ولا تشكل عنصراً مسبباً للحرب، لكونها مستمرة باستمرار العلاقة بين الدول والكيانات، حتى في حالة السلم والصلح. هذا النوع من الأعمال، يكون لأهداف تعيد التوازن إلى العلاقات عند جنوح أحد الأطراف إلى كسر قواعد اللعبة المعمول بها، وهي “حروب الاستخبارات” وأعمالها السرية.
ولأن المرحلة هي زمن التوازنات الحساسة، فإنه أصبح لحرب الاستخبارات دوراً آخر جديداً، وهو نقل المعركة من ميدان القتال إلى ساحات الضربات النوعية المنفصلة عن مثيلاتها، فهي لا تشكل تسلسلاً عملانياً تكتيكياً في ذاتها، وفي الوقت عينه ترسم قواعد سياسية للصراع الدائر في المنطقة، وبذلك تكون هذه الضربات المتبادلة هي “حرب الذين لا يريدون حرباً”.
وفي هذا السياق، تتصدر الأخبار بشكل متواتر حول حصول أحداث مريبة بين كل من إيران والعدو الإسرائيلي، خصوصاً بعد حادثة أربيل في آذار من هذا العام، حيث بدا واضحاً أن الطرفين يخوضان صراعاً أمنياً متبادلاً، يتمثل في ما سماه رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية الصهيونية السابق تامير هايمن بـ”حرب الوعي”، والذي من خلاله يمكن خلق تأثيرات استراتيجية من دون حدوث تصعيد خطير واسع النطاق.
لا شك أن الصراع الأمني بين الكيان الصهيوني وإيران ليس وليد اليوم، فمنذ انتصار الثورة الإسلامية العام 1979، وطرد الصهاينة من إيران، وحلّ جهاز “السافاك” الربيب الرسمي لجهاز الموساد الإسرائيلي، يسعى الكيان إلى مواجهة ما يراه تهديداً فعلياً له. وفي المقابل ترى إيران أن الكيان هو المعسكر المتقدم للولايات المتحدة الأميركية وحلفائها الغربيين في هذه المنطقة، ولا بد من كبح جماحه.
لكن الجديد في الأمر، أن الكيان الصهيوني أعلن صراحة أنه بصدد مواجهة إيران، بعدما كان في مواجهة ما يسميه “أذرعها” في المنطقة. وقد رفعت “إسرائيل” سقف المواجهة عبر التسلّل نحو دول المنطقة التي قد تكون منصات للانطلاق نحو الأراضي الإيرانية، أو محطات لوجستية تقرب مسافة العدو الإسرائيلي من حدود إيران وداخلها، مما يعني أن صراعاً قوياً بدأ يدور في المنطقة لم يعد يشمل ساحتي إيران وفلسطين المحتلة وبعض المناطق التقليدية الأخرى فحسب، بل ستدور رحى هذه المواجهة في أي نقطة يتواجد فيها أحد طرفي النزاع.
هذا الأمر سيرفع تكلفة المحاور التي قد تتشكل، وتزيد من مسؤولية كل طرف في اختيار الجهة التي سيقف إلى جانبها، وسيحكم الميدان لمن ستكون اليد العليا في هذا الصراع الذي، ولأول مرة، أصبح صراعاً علنياً غير عسكري بين أطراف لم تعد ترضى بقواعد الاشتباك الحالية، وفي نفس الوقت ليست محفزة نحو تصعيد الأمور لتصل إلى حافة الحرب العسكرية.
بذلك، أصبح لدينا، إلى جانب أجيال الحروب ونظرياتها، حرب الاستخبارات العلنية التي يعلم الجميع فيها من وجّه الضربة وكيف وجهها ولمن… وقد يعترف في أغلب الأحيان بشكل ملتوٍ بما فعله لتثبيت سقف المواجهة وعرض العضلات. وفي المقلب الآخر لا يمكن للطرف الثاني سوى البحث عن خيار مماثل لتوجيه ضربته، على قاعدة أن لكل فعل ردة فعل يوازيه في القوة ويخالفه في الاتجاه. فلا يعقل أن يحترق مصنع ما أو يموت شخص ويتم الرد عليه عبر عمل عسكري تقليدي، لأن من شأن ذلك أولاً خلق فوضى غير منطقية في المواجهة، وثانياً يظهر ضعف الطرف الآخر في إعادة الكرة إلى ملعب الضارب وهو ما لا تقبل به الدول المعتدة بقدراتها.
إلى ذلك فإنه ليس كل ما يجري في ساحات النزاع يكون في ذات السياق، وليس كل ما يحدث يكون بفعل فاعل، وليست كل العمليات، وإن كانت أمنية، تخدم العمل السياسي فحسب، فبعض منها تكون في خدمة الجيوش النظامية وليس الإدارة السياسية، وهذا ما يدركه اللاعبون جيداً، حتى وإن كان جبل الجليد لا يظهر منه سوى الثلث العلوي ويغرق الباقي في المياه المظلمة.
ولكون التفاوض عملية يسعى فيها طرفا الطاولة إلى تحقيق مصالحهما المتعارضة، على من يتفاوض أن يُحضر أسلحته ويبدأ بتجربتها على مرأى من الطرف الآخر كي يدرك هذا الآخر حجم ما يمكن أن يحصل فيما لو لم يتنازل، بصرف النظر عن من يجانب الحق ومن يجافيه، وبذلك تكون عملية المسيرات التي نفذتها المقاومة قبل أيام ورقة قوة لمن يعرف استخدامها، ومن لا يعرف فليتنحى جانباً حتى لا تتهمه الأجيال المقبلة بالخنوع ما لم تتهمه بالخيانة.