/ خلود شحادة /
في “عصرونية” من على شرفة بيته في بيروت، يجلس الرئيس نجيب ميقاتي بلباس مريح، متخلياً عن ربطة العنق التي ترافقه بمشاويره الى بعبدا، سارحاً بـ”كزدورة” اللبنانيين في “الزيتونة باي” الذين يكاد لا يراهم من منزله في الطابق 26 من برج “بلاتينيوم”.
يرتشف قهوته ببرود، وكأنه يعلم أن لا حياة للصيغة الحكومية التي قدّمها للرئيس ميشال عون، مطمئنّ البال إلى احتفاظه بصفتين ستلازمانه حتى إشعار آخر: رئيس حكومة تصريف الأعمال، ورئيساً مكلفاً تشكيل الحكومة.
يعود إلى مكتبه، يحمل سيجاره، يقلّب بين أوراق كثيرة تتكدس أمامه. يفكّر في “الخدمة” التي قدمها له رئيس “التيار الوطني الحر” النائب جبران باسيل، على “طبق من ذهب”، عبر رفضه الصيغة الحكومية، يبتسم ويتمتم قائلاً “ما بدو يشارك بالحكومة بس بدو يشرف عالتشكيل.. طيّر الحكومة وخدمنا فيها”.
يستطيع اليوم ميقاتي رمي كرة التعطيل في ملعب باسيل، على مبدأ “لا يكلف الله نفساً الا وسعها”، بحجة رفض بعبدا للصيغة الأخيرة التي قدّمها.
لكن ميقاتي يدرك، وإن حاول التسويق لأفكار أخرى، عبر شن هجوم على باسيل وتياره، ورمي أسباب تعثر التشكيل على هذا وذاك، أنه اليوم لن يكون إلا “مصرّف أعمال” للحكومة.. سواء شكّل أو لم يفعل.
“صحوة” ميقاتي لـ”أزمة التصريف”، تأتي من اعتباره أنه من المستحيل تقديم التنازلات في ظل ضعف الزعامة السنية التقليدية، وهو يرى نفسه اليوم “البديل الوحيد والأنسب” في الساحة السنية، في ظل غياب الرئيس سعد الحريري وإقصاء الانتخابات لزعماء آخرين، تزامناً مع التشرذم الذي يعيشه مجلس النواب.
كذلك حرص ميقاتي على “ميثاقية” حكومته التي تستقيها من الطوائف، في ظل رفض الكتل المسيحية جميعها المشاركة في الحكومة، و”كل له أسبابه”.
يتلاقى ميقاتي مع الثنائي الشيعي ببعض النقاط فيما خص مشروع حكومته العتيدة، ومنها موقفه من “تشليح” التيار لوزارة الطاقة، ليطبق عليها حصراً مبدأ المداورة. هو موقف يؤيده رئيس مجلس النواب نبيه بري ومعه “حزب الله”، وذلك بعد الفشل الذريع والمتكرر في إدارة هذه الحقيبة، خصوصاً مع وصول لبنان إلى العتمة الشاملة، بالإضافة الى عدم رغبة “الثنائي الشيعي” تشكيل حكومة أكثرية، حتى لا يتم تحميلهما وزر كل القرارات التي قد تتخذها الحكومة، والانهيارات التي قد تشهدها.
كذلك يتلاقى ميقاتي مع بري، بضرورة عدم إتاحة الفرصة لباسيل لتشكيل حكومة تضمّ ثقلاً سياسياً ـ مسيحياً من العيار “العوني” حصراً، حتى لا يتم تسليمهم البلد “تنفيذياً” بعد دخول لبنان مرحلة الفراغ الرئاسي.
وبينما يجلس ميقاتي خلف مكتبه، نافخاً دخان سيجاره، يسأل نفسه: لماذا أشكّل حكومة في ظل المعركة الدبلوماسية لترسيم الحدود البحرية اللبنانية، ورسائل القوة التي يرسلها “حزب الله” لكيان الاحتلال الاسرائيلي، والتي يؤكد فيها أن كل الخطوات محتملة لحماية الثروات اللبنانية؟
مسيّرات “حزب الله” سُمع صداها في مجلس الوزراء، حيث وزير الخارجية عبد الله بو حبيب، بعد اجتماعه بميقاتي، أنها “جرت خارج إطار مسؤولية الدولة والسياق الديبلوماسي”.
هي دبلوماسية مفرطة في “إيجابيتها” في التعامل مع الضغوط الخارجية والاستسلام لها، يمارسها ميقاتي بأدائه فروض الطاعة الخارجية.
بات معلوماً، أن هذه المراوحة التي تنتظر لبنان حتى تشرين الأول المقبل، هي مراوحة “متعددة الجنسيات”، في ظل دولة تتحلل شيئاً فشيئاً، مع مؤسسات معطلة، باستثناء الشهادات الرسمية، التي أنجزت “رفع عتب”، على الرغم من أن الموظفين والعسكر بلا رواتب، وإذا قبضوها فهي بلا قيمة.
من جهة أخرى، أميركا المنغمسة بانشغالاتها لاتمام انتخاباتها الرئاسية النصفية، جمدت كل استحقاقات دول الاقليم، وتمنّت على فرنسا “التريّث” بالملف اللبناني حتى تشرين الأول. تلقّف ميقاتي هذا التمنّي، حفاظاً على “طيب العلاقة” مع صديقه الفرنسي.
بالتزامن، تأتي جولة الرئيس جو بايدن لتجميع “شيكات اقليمية” وصرفها في الانتخابات النصفية، ومنها الطلب من السعودية زيادة انتاجها للنفط، لخفض سعر البرميل عالمياً، والذي أدى ارتفاعه الى ركود الاقتصاد العالمي. بالإضافة إلى السعي لإتمام ملف التطبيع بين السعودية والعدو الاسرائيلي.
ولا ينتهي الدور الأميركي هنا، بل ان المنطقة أمام “ناتو عربي” يضم مصر والأردن وإسرائيل ودول الخليج، برعاية وحضانة أميركية، بالاضافة الى محاولة ترتيب العلاقة بين إيران والسعودية بجهد من العراق الذي يشكل خط تماس مباشر بين السعودية وإيران.
ولا يغيب عن بال ميقاتي، أن السعودية التي وقفت على حياد بما خص تسميته لرئاسة الحكومة، لا تريده، بل انها تفضّل نواف سلام.. لكنها لا تمانع وجوده لتمرير هذه المرحلة، لأنها تدرك أن المدة “مش حرزانة” لفتح معركة حكومية من أجل 4 أشهر.
ليس ميقاتي وحده من يريد أن يفصّل حكومة على مقاس ظروفه ورغباته ومصالحه.. والمياه اللبنانية ستكذّب غطاسي السياسة!