/ جورج علم /
يُثار غبار كثيف حول إعادة بناء مرفأ بيروت. وينقل الإعلام المحلي مواقف لمسؤولين معنييّن بهذا الملف، ولآخرين من ذوي إختصاص، إلاّ أن الخطوة الأولى في مسافة الألف ميل لم تبدأ بعد، لأن القرار لا يزال مصادراً، وهو ليس حكراً على وزير أو جهة أو مرجعيّة، بل عند الإجماع الوطني، وطالما أن الإجماع غائب، فالقرار غير متوافر.
ويبقى الغرض من الكلام المتداول إما التأكيد على ديناميّة الحركة، حتى ولو كانت من دون بركة، أو محاولة جس نبض مرجعيات لها وزنها، من بكركي الى فعاليات مسيحيّة وإسلاميّة، تشكّل اللبنة الصلبة لأي بناء وطني يستحدث، أو يفترض أن يقوم من تحت الأنقاض.
المرفأ كقضيّة، أو كمرفق وطني، غير متروك، هناك مراكز دراسات تخطط، وتحدّد مواصفات القرار الذي سيأخذ طريقه الى العلن، عندما تحين المواعيد، وتتوحّد الإرادات. وحتى ذلك الحين، تبقى الأولوية للكشف ما تحت الردم، والركام:
- من فجّر المرفأ، وكيف؟ من المسؤول؟ وما هي الخلفيات؟
- إقرار الحق، لأصحاب الحق. والتعويض لأهل الضحايا، والمتضرّرين، فلا يبقى غبن، ولا يهمل مظلوم.
- التفاهم على أي مرفأ سيعاد بناؤه؟ لأي دور، ووظيفة، وسعة استيعاب؟ ووفق أيّ نظام تشغيلي، وتحت أي مظلّة، أو مرجعيّة، أو شرعيّة؟
إن مرفأ “كل من إيدو إلو”، قد إنتهى، وولّى زمانه، ومن يحاول أن يسترجع ذلك الزمان، ويعيد عقارب الساعة إلى الوراء، فاته أن الدم البريء الذي هدر بإسم “حرب الآخرين على حساب لبنان”، لن يغفر، ولن يسامح. فإما حق، وقانون، وعدالة.. او إستحالة…
هناك غبار كثيف حول مرسوم التجنيس. وينشر كلام كثير في الصحف ووسائل الإعلام، يؤكد بان المستور قد أصبح مفضوحاً. لكن عمليّاً الأمور ليست بهذه البساطة. هناك مرجعيات، وفعاليات وطنية تنتسب إلى طوائف ومذاهب عدة، تدرس، وتعاين الموضوع من منظار وطني، سيادي، ديموغرافي، مصيري.
صحيح أن الدستور يجيز لرئيس الجمهوريّة، لكن عمليّة إصدار هكذا مراسيم تحكمها أخلاقيات مترفعة، واعتبارات وطنيّة ساميّة، وحالات إنسانيّة ضيقة. أما أن يصبح مجرّد وسيلة، لغايات معينة، فهذا ما يقلق، ويثير حفيظة السيادييّن الفعليّين المتمسكين بأهداب الصيغة، والتوازنات المجتمعيّة، ويدفع بهم الى التحرّك، وإيلاء الموضوع ما يستحق من عناية، ورعاية، لتبرير الدوافع، وتصويب المقاصد.
والمسألة المطروحة، إن على مستوى بكركي، أو على مستوى مرجعيات وطنيّة وازنة، لا تقتصر، أو بالأحرى، لا تمتّ بصلة إلى “عقدة الأقليات”، أو طغيان “الأكثريات على الأقليات”، بل تنطلق من مفهوم وطن، وهل هذه المساحة الضيقة من الأرض هي مجرّد مشاع مباح متاح، أم لها شرعيّة، وهويّة، وخصوصيّة محكومة بدستور وقوانين لكي تؤدي دوراً، وتغني حضارة، وتتمّم رسالة؟!
والمقلق في محيط هذه المرجعيات، أن مرسوم التجنيس يطلّ برأسه من وراء الغيوم الداكنة الوافدة الى سمائنا من المحيط الأميركي ـ الأوروبي، مع تأكيد وتصميم على حلّ قضيّة اللاجئين الفلسطينييّن، والنازحين السورييّن عن طريق دمجهم في مجتمعات الدول المضيفة، ومنحهم الحقوق المشروعة للمواطنين.
بالطبع، إن “كرنفال” المزايدات هنا، في ذروة مهاتراته، من وزارة الخارجيّة التي “لا تألو جهدا في التصدّي، والحؤول دون تحقيق ذلك”، الى آخر مرجعيّة روحيّة، وزمنيّة. لكن عمليّا لا شيء سوى الضجيج، يوازيه استسلام مريع لتطبيع هذا المخطط والتطبّع معه، وعلى قاعدة “مكره أخاك لا بطل”!
وبصريح العبارة: قد يُعرف غداً، أو بعده، مصير مرسوم التجنيس. لكن لا غداً، ولا بعده سيعرف ما إذا كانت ستتفتّق إرادة وطنية جامعة تتصدّى للمؤامرة الكبرى في الدمج والتجنيس!
وهناك غبار كثيف حول السياسات المتبعة لمعالجة الأزمات الإجتماعيّة، المعيشيّة.
نهر من الكلام، يفيض صباح كلّ يوم حول الطاقة، والكهرباء، والدواء، والقطاع المصرفي، وجنون الدولار، وإرتفاع الأسعار، يقابله فيض من الشعارات الطنانة، والوعود المعسولة بالمعالجات، مقابل فوضى عارمة تزداد تفلّتا يوما بعد يوم.
إزاء هذا التخبط الحاصل، ثمة من يؤكد بأن ما يحصل، هو المطلوب، وعندما يميل العقد، ينحني البناء حكماً، لكن القنطرة لا تستوي حجارتها إلاّ مع العكوف والإنحناء. وفي أوساط بعض الدوائر المحليّة المتابعة ثمّة من يقول: “إن الخروج عن القاعدة يعني الفوضى، لكن الفوضى تكرس بدورها قاعدة وفق حدود مقتضيات الأمر الواقع”. وما يجري، ربما يؤسس نوعًا من الإستقلاليّة عن المؤسسة المركزيّة الحاضنة، لصالح اللامركزيات، وتأمين نوع من الإكتفاء الذاتي لكل منطقة، على أن يصار في ما بعد إلى البحث عن الصيغ التي تضمن نوعاً من التعاون وفق مقتضيات “المصالح المشتركة”.
- هل هذا يعني الجنوح نحو نظام لامركزي، من أسبابه الموجبة راهناً، تأمين “الإكتفاء الذاتي” معيشيّاً، وخدماتيّاً، وثقافيّا؟
- ما يعني أن هناك رزمة متكاملة من التحديات المتفاعلة على أرض الواقع، تقابل إما بتجاهل تام، أو بنوع من المسكنات، وفق ما هو متبع من ممارسات يقال بأنها معالجات، فيما الحقيقة أنها أبعد ما تكون عن المخزون الحقيقي للأزمة بملفاتها، وتشعباتها، وتداعياتها، والدليل أن المواطن، وعلى أي مستوى إجتماعي كان، يتصرّف تلقائياً لتأمين كفاف يومه بعرق جبينه، من دون أي تعويل على دور الدولة ومؤسساتها الداعمة والمساندة.
هناك ثقافة جديدة تروّج بشكل تلقائي، ودون كبير عناء، ألا وهي “استغناء” المواطن عن الدولة، وهذه قمّة “الإنفصام”. والدليل أن إهتمام المسؤولين اليوم منصبّ حول من سيكلّف بتشكيل الحكومة؟ وبكم عدد من أصوات النواب، سيحظى “صاحب الحظ السعيد”؟ وما هو شكل الحكومة؟ ولمن ستجيّر الحقائب السياديّة؟… لكن ماذا عن مرفأ بيروت؟ ماذا عن التجنيس؟ ماذا عن ترسيم الحدود البحريّة؟ وعن مخطط التوطين؟ وعن مصير الليرة؟ ومصير الوطن، ومستقبل شبابه؟… لا حياة لمن تنادي!