/ جورج علم /
التوقيت مهم، وكل حديث آخر لا يلتزم بزمان ومكان وحدث، هو ممل، ويصنّف في خانة “الثرثرة”.. و”تضييع الوقت”!
وصلت الباخرة “إنرجين” إلى الجنوب بعيد إنتهاء الإنتخابات النيابيّة، وقبيل البدء بتشكيل حكومة جديدة، والهدف أن يتضمن بيانها الوزاري فقرة تتحدث عن ترسيم الحدود البحريّة، بوضوح، بعيداً عن أي التباس.
ووصلت قبل التجديد لمهام قوات (اليونيفيل)، خلال آب المقبل، على خلفيّة مسعى أميركي ـ أممي بدأ منذ العام 2019، ويقضي بتوسيع رقعة إنتشارها، ومساعدة الجيش اللبناني في ضبط معابر “التهريب”، وتنفيذ سائر مندرجات القرارين 1559 و1701.
ووصلت تحت مظلة وارفة من الضمانات الأمنية الدوليّة، وفّرتها الأمم المتحدة، والولايات المتحدة الأميركيّة، والإتحاد الأوروبي، وحلف “الناتو”، والمجموعة الدوليّة المعنية بمشروع “إيست ـ ميد”، أو مشروع غاز شرق المتوسط الذي يضمّ لغاية الآن مصر، قبرص، اليونان، وإسرائيل.
إنطلق المشروع في الرابع من كانون الثاني 2020 عندما وقّع وزراء خارجيّة إسرائيل، وقبرص، واليونان على الوثائق الأوليّة التي تتحدث عن إتفاق لمدّ خط انابيب تحت البحر بطول 1400 كيلومتر لنقل الغاز الطبيعي من شرق المتوسط الى أوروبا، بكلفة 6 مليارات دولار، وقوة ضخ ب 10 مليارات متر مكعب من الغاز سنويّاً، ويمتد من فلسطين المحتلة، عبر المياه الإقليميّة القبرصيّة، مروراً بجزيرة كريت اليونانية، الى البر اليوناني، وصولاً إلى شبكة أنابيب الغاز الأوروبيّة عبر إيطاليا.
إصطدم المشروع بعقبتين: التمويل، والبحث عن مزيد من الشركاء الإقليمييّن. شاركت مصر في المفاوضات المكثّفة، مع قرار مبدئي بالإنضمام، وفتحت الدبلوماسيّة الأميركيّة الباب أمام لبنان، من موقع “جس النبض”، ثم على سوريا لاحقاً عندما تنضج طبخة الحل السياسيّ…
ضخّت الحرب الروسيّة ـ الأوكرانيّة دماً جديداً في شرايين المشروع، نظراً لحاجة أوروبا الملحّة الى الغاز، والطاقة، بعدما قررت التخلّي عن الغاز الروسي ضمن سلّة العقوبات المتخذة ضدّ موسكو.
وصول السفينة اليونانية الى حقل “كاريش” الإسرائيلي، يؤكد السعي الجدّي لنفض الغبار، والإنطلاق بالمشروع نحو التنفيذ، بأقصى سرعة ممكنة، على أن تتم معالجة العوائق عن طريق “الدبلوماسيّة الخشنة” التي تعتمد على “الجزرة والعصا” في آن.
وإذا كان الوصول قد شكل “صدمة” للبنان، كما يوحي التعاطي الرسمي، فإن الأطراف الأخرى المعنيّة، تتعاطى بمسؤوليّة، وجديّة مع الفعل، دون إغفال ردود الفعل.
- إسرائيل قالت ما عندها: إن المساحة المتنازع عليها هي بحدود 860 كلم مربع، وفق الوثائق التي أودعها لبنان، الأمم المتحدة في 18 ـ 8 ـ 2011. وإن حقل “كاريش” يقع في المياه الإقليميّة الفلسطينية المحتلة، وإن عمليات التنقيب على الغاز قد إنتهت منذ أشهر، وإن مهمة السفينة استخراج الغاز، وتخزينه، إلى حين الانتهاء من عملية ربط الأنابيب. وإن تل ابيب على موعد لاستقبال الدفعة الأولى في أيلول المقبل.
- اليونان قالت ما عندها: لم ترسل السفينة لتفجر بحراً من الأزمات، بل فعلت بعد حصولها على الضمانات.
- الأوروبيّون قالوا ما عندهم: الغاز ضرورة ملحّة، وتنفيذ مشروع “غاز شرق المتوسط” من الأولويات.
- الأميركيّون لم يقولوا كلّ ما عندهم بعد. إنهم الخصم والحكم. “المايسترو” الذي يوزّع الأدوار، ويتحكّم بالإداء. طرحوا خط فريدريك هوف في البداية كمنطلق لترسيم الحدود، إلاّ أن لبنان رفض المقترح، ولم يقدم البديل العملي للبناء عليه. ولا مصلحة للغوص في قصة “إبريق الزيت” وقد أصبحت معروفة، ومتداولة على كل شفة، ولسان، ولم يقصر الإعلام اللبناني في سرد “الروايات” التي لا تنتهي. لكننا اليوم كلبنانييّن أصبحنا أمام أمر واقع لا نملك فيه لا ترف الوقت، ولا ترف “المزايدات الدونكيشوتيّة”، والدليل الإجماع رسمي، على مستوى كبار المسؤولين، بدعوة المفاوض الأميركي آموس هوكشتاين بالعودة لإستئناف مهمّة الوساطة.
قد يكون من المبكر الخوض في تفاصيل ما يحمل من أفكار، ومقاربات، ولكن الاستدعاء يحمل في طياته حاجة لبنانية ملحّة للمساعدة على الخروج من هذه الورطة بما يحفظ ماء الوجه. لقد ولّى زمن البهورات، والمزايدات، والعنتريّات، وحلّ أمرّ واقع دولي ـ إقليمي يفترض التعاطي معه بحكمة ودراية للحدّ من الخسائر، والتخفيف من وطأة التداعيات.
وصول “إنرجين” الى بحر الناقورة ـ فلسطين المحتلة، يعني صفحة جديدة قد فتحت يفترض التعاطي معها برؤوس باردة، لا برؤوس حاميّة. ولا تقتصر الصفحة هذه على الترسيم، بل تشمل ملفات حساسة على صلة مباشرة بالمستقبل، والمصير.
أولاً: ليس من باب الصدفة أن تصل الباخرة، ولبنان أمام تشكيل حكومة جديدة. إن هذه الحكومة، أيّاً كان شكلها، ولونها، وحجمها، عليها أن تأخذ بعين الإعتبار تحديات ثلاثة عند صياغة بيانها الوزاري: نصّ الإتفاق المفترض أن يتوصل اليه الموفد الأميركي حول المنطقة المتنازع عليها. التخلص من “الثلاثيّة الذهبية: جيش ـ شعب ـ مقاومة”، وإستبدالها بمعادلة “الدولة هي المؤتمن الوحيد على السيادة”. والخروج بموقف واضح من الإصلاحات، وكيفية التفاهم مع صندوق النقد الدولي.
ثانيّاً: إن القرارات الدولية الخاصة بلبنان يجب أن تأخذ طريقها نحو التنفيذ. 1701، و1559، و1680. وترسيم الحدود البريّة لا يقل أهميّة عن ترسيم الحدود البحريّة. وهناك توجّه لزيادة عديد “اليونيفيل”، وتوسيع رقعة انتشارها كقوة داعمة للجيش اللبناني في تنفيذ الأمن السيادي على كل لبنان.
ثالثاً: يجب الإعتراف بوجود بداية تحوّل في المشهد اللبناني. العمليّة العسكريّة الواسعة التي نفّذها الجيش اللبناني، قبل أيام، في حي الشراونة في بعلبك من دون أن يحرّك “حزب الله” ساكناً، ظاهرة لافتة. وأن يقول نائب الأمين العام، الشيخ نعيم قاسم، أن الحزب تحت سقف الدولة، في ما يتعلق بالمنطقة المتنازع عليها، ربما يشكل بداية تحوّل لا بد من متابعة كامل فصوله…