لُغزّ “منصّة صيّرفة”.. هل تصّمد أمام خطر الانهيار وجنون “الدولار”؟

/محمد حمية/

في غمّرة الانهماك الرسمي بالاستحقاقات النيابية والحكومية، وملف ترسيم الحدود البحرية المستجد من خارج جدول المواقيت الدستورية والأحداث اليومية، يعيش اللبنانيون تحت رحمة الدولار وسيف حاكم “امبراطورية المصرف” و”حكام مملكة المصارف” وجشع “الصرافين” و”المضاربين” وفوضى السوق السوداء…

المواطن الذي يكّتوي بنار الأزمات المعيشية اليومية، وضعه حكامه وسياسيوه بين مطرقة منصة “صيرفة” وسندان “السوق السوداء” التي كرّست قواعد لعبة جديدة، مخالفة للقوانين المالية والمعايير الإنسانية، وتحولت إلى لغز لا يفك طلاسمه إلا صُناع هذا السوق ومحركوه، حتى أضحى سوقاً شبه رسمي يجري تقييم وتقريش كل المواد والسلع على أساسه..

لا أحد يعرف خفايا “منصة صيرفة”، وكيفية عملها، ومصدر تمويلها، ومدى استمراريتها، وجدواها الاقتصادية، وتداعياتها على قيمة العملة الوطنية، وأين تذهب الدولارات المتداولة عليها؟ وما علاقتها بالسوق السوداء؟!

دورة “اللولرة”، الكل يدور معها وحولها، ولا يعرفون عنها شيئاً.

“المنصة” حلٌ ابتدعه حاكم البنك المركزي رياض سلامة وفق التعميم 161، لاحتواء القفزات المفاجئة بسعر صرف الدولار في السوق السوداء، عبر التحكم بالعرض والطلب، والسيطرة على حجم التداول في السوق، أشبه بمنصة ضبط سياسية “غُب الطلب”.

بعد ارتفاع سعر الصرف عشية انتهاء الانتخابات النيابية في 15 أيار الماضي، حيث لامس الـ38 ألف ليرة، سارع سلامة لاستخدام “سلاح الصيرفة”، وكان الهدف حينها امتصاص الغضب الشعبي وتمرير جلسة انتخاب رئيس المجلس ونائبه، وأصدر سلامة قراراً وقتذاك بإجراء خاص ألزم المصارف بتجديد العمل بالتعميم 161، وضخ كميات كبيرة من الدولار في السوق، وسمح للشركات والأفراد بيع ما يملكونه من أموال بالليرة اللبنانية مقابل الحصول على الدولار وفق سعر صيرفة 24400 ل.ل، للاستفادة من فارق السعر مقارنة بالسوق السوداء.

يُلخص خبير اقتصادي ومالي لـ”الجريدة” تفاصيل العملية بالتالي: يقصد التجار والأفراد والمضاربون، المصارف لشراء الدولار على سعر صيرفة لتبديل اللبناني بالدولار، ثم يذهب أغلبهم لبيع الدولار في السوق السوداء لتحقيق هامش الربح، ثم يعودون بالليرات اللبنانية إلى المصرف لبيعها مجدداً على “المنصة”، ويكررون الأمر مرات عدة.

ويشكك الخبير بوجود سقف لتبديل العملات في المصارف، إذ يمكن ضبط عمليات الأفراد، لكن يصعب ضبط عمليات التجار بسبب حركة الاستيراد الضخمة التي يقومون بها يومياً.

ويشير الخبير إلى الفارق الكبير بين كلفة الاستيراد الشهري بالدولار، وبين حجم الدولار المتداول على “المنصة”، ويكشف أن حجم التداول على منصة صيرفة يبلغ معدله يومياً حوالي 90 مليون دولار، أي مليار و980 مليون دولار خلال الـ 22 يوماً الماضية، مقابل مليار و400 مليون دولار حجم الاستيراد من الخارج، أي أن هناك 712 مليون دولار أرباح متأتية من تجارة داخلية عبر العمليات على “منصة صيرفة” والمضاربة في السوق السوداء، من ضمنها الأفراد وتجار وشركات.

ويضيف الخبير: “حجم العمليات على صيرفة يجب أن تؤدي إلى خفض سعر صرف الدولار بالسوق السوداء الى ما دون صيرفة، ما يعني أن الدولار هو سياسي بالدرجة الأولى، واقتصادي للمضاربة بالدرجة الثانية، إذ أن المضاربين على “صيرفة” يحافظون على سعر الدولار بالسوق السوداء على 28 ألف ليرة، لتشجيع عمليات الصيرفة لكي يستمروا بتحقيق أرباح إضافية”.

السؤال الجوهري من أين يأتي سلامة بالدولارات لتشغيل صيرفة؟

  • من احتياطي مصرف لبنان. ويقول البعض إنها من الاحتياط الالزامي في “المركزي”، أي ما تبقى من الودائع المصرفية.
  • من التحويلات الخارجية الى لبنان “فرش دولار”.
  • من حقوق السحب الخاصة للبنان من صندوق النقد الدولي.

ويشير الخبير في هذا السياق الى أن مصرف لبنان ليس اللاعب الوحيد في سوق “صيرفة”، وبالتالي لا يضخ كل الدولارات فيها، بل أيضا المصارف والصرافين. هذه حلقة دائرية، تدور الدولارات فيها وتُدوّر بين مصرف لبنان والمصارف والصرافين إلى المنصة، ثم للسوق السوداء، وتعود أدراجها دورة كاملة.

ويؤكد الخبير أن “مصرف لبنان يتحمل خسائر في هذه العملية كونه يضخ كميات كبيرة من الدولارات، لكن لا أحد يملك أرقاماً دقيقة سوى المصرف المركزي الذي يعرف حجم تدخله بالمنصة وحجم الكتلة النقدية المتداولة بالليرة وبالدولار، ما يعني أن مبلغ 90 مليون دولار ليس مصدره مصرف لبنان وحده”.

هل يعود مصرف لبنان لجمع الدولارات من السوق السوداء للحفاظ على احتياطاته؟

يشدد الخبير على أن قانون النقد والتسليف يمنع مصرف لبنان من التعامل بالعملات في السوق السوداء، بل عبر عمليات رسمية شرعية مع المصارف والصرافين من ذوي الفئة الأولى.

لكن مصادر تجارية ـ مصرفية تكشف لموقع “الجريدة” أن 5 صرافين كبار يحتكرون الدولارات ويُشغّلون بقية الصرافين الصغار والسوق السوداء، وبالتالي فإن مصرف لبنان يسترجع الدولارات التي يضخها بوسائل وطرق متعددة وغير مباشرة وبسعر أقل.

ويضيف الخبير: يمنع على مصرف لبنان التصرف بحقوق السحب الخاصة لدى “صندوق النقد” إلا بتغطية من مجلس الوزراء، ويسمح له التصرف بالموجودات لديه، لكن لا يستطيع التصرف بالأموال القابلة للتصرف مثل الاحتياط الالزامي ولو كان من ضمن الموجودات.

هل تصمد “منصة صيرفة” أمام مخاطر الانهيار الاقتصادي وموجة ارتفاع الدولار التي يلجمها التعميم 161؟

يوضح الخبير أن المعطيات الاقتصادية والمالية ليست من يتحكم بسعر الصرف، بل أسباب سياسية والتطبيقات الإلكترونية. ويلفت إلى أن العائدات السياحية في الصيف المقبل لن تؤثر بسعر الصرف، ويرجح استقرار سعر صرف الدولار طالما يتم العمل بالتعميم حتى أواخر تموز، ولكن يتفلت الدولار بالحالات التالية: تجميد العمل بالتعميم، أو خضة سياسية كالفراغ الحكومي أو الرئاسي، أو أمنية كاندلاع إضرابات في الشارع أو اقتصادية كوقف المفاوضات مع صندوق النقد.

لكن الخبير يشير الى أن مصرف لبنان لن يستطع الاستمرار بضخ الدولار لوقت طويل، وبالتالي سيقفز الدولار نحو معدلات مرتفعة خلال الشهور المقبلة، إذا لم تدخل أموال من الخارج بعد تشكيل حكومة تحظى بثقة المجتمع الدولي واستئناف المفاوضات مع صندوق النقد.