| كيان الأسدي |
في لحظة سياسية وأمنية شديدة الحساسية، كشف رئيس الجمهورية اللبنانية جوزاف عون عن تلقّي لبنان مقترحًا أميركيًا جديدًا، وُضع تحت عنوان “تنظيم آلية العمل جنوب نهر الليطاني”، ويقوم في جوهره على ما يُسمّى “آلية التحقّق”. غير أن التدقيق في مضمون هذا المقترح، وفي السياق الذي وُلد فيه، يكشف أنه يتجاوز البعد التقني أو الإجرائي، ليشكّل تحوّلًا خطيرًا في طبيعة الدور المطلوب من الدولة اللبنانية، وتحديدًا من الجيش اللبناني، في منطقة تُعدّ من أكثر المناطق حساسية في الصراع مع العدو الإسرائيلي.
ينصّ المقترح، بحسب ما كُشف، على أن يقوم الجيش اللبناني بعمليات تحقق وتفتيش لأي مبنى أو موقع يُشتبه وفق التقدير الإسرائيلي باحتوائه على وسائل قتالية. وتبدأ الآلية بأن يرفع جيش الاحتلال الإسرائيلي “حالة الشك” إلى لجنة “الميكانيزم”، التي بدورها تُبلغ الجيش اللبناني، ليقوم الأخير بالتدخل الميداني والتفتيش، في محاولة لإثبات أو نفي الادعاءات، تحت تهديد القصف.
لكن الإشكالية الجوهرية في هذا الطرح تكمن في مصدر الاشتباه نفسه، وفي الجهة التي تملك حق إطلاقه وتحديد توقيته وأهدافه. فحين يكون العدو الإسرائيلي هو من يحدّد مواضع الشك، ويقود عمليًا مسار التفتيش عبر قنوات دولية، فإن ذلك يُخرج العملية من إطار السيادة الوطنية، ويُدخلها في دائرة الابتزاز السياسي والأمني.
هذا المقترح، الذي جاء ثمرة مسار تفاوضي مدني لبناني اتّسم بمرونة مفرطة، يقابله تمادٍ إسرائيلي واضح في فرض الشروط ورفع سقف المطالب. وهو ما يوحي بأن ما يُقدَّم على أنه “آلية لمنع التصعيد”، ليس سوى صيغة جديدة لإدارة الصراع بأدوات لبنانية، وبأثمان داخلية يدفعها اللبنانيون أنفسهم.
الأخطر في هذا المقترح أنه يسعى، ضمن رؤية أميركية ـ إسرائيلية مشتركة، إلى جعل الجيش اللبناني أداة التنفيذ الميداني الأساسية جنوب الليطاني. وهو ما يضع المؤسسة العسكرية في موقع بالغ الحساسية، إذ قد تتحوّل، من حيث لا تريد، إلى طرف مباشر في احتكاك مع الأهالي، وخصوصًا في القرى الجنوبية التي قد تُستهدف منازلها بذريعة التفتيش والتحقق.
ولم يأتِ هذا الطرح من فراغ، بل سبقته خطوات عملية جرى تنفيذها على الأرض، وكأنها اختبار مبكر لمدى قابلية تطبيق هذه الآلية. فقد أعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي، في وقت سابق، نيّته تنفيذ ضربة على منزل في بلدة يانوح الجنوبية، قبل أن يُبلِغ لجنة “الميكانيزم”، التي أوعزت بدورها إلى الجيش اللبناني بالتدخل.
وعلى إثر ذلك، نُفّذت عمليات تفتيش متكررة للمنزل، ثم طُلب من الجيش اللبناني حفر شبكة تصريف مياه تحت الأرض، بذريعة الاشتباه بوجود أسلحة لـ”حزب الله”. ورغم كل هذه الإجراءات، وتحت إشراف قوات “اليونيفيل”، لم يُعثر على أي دليل يُثبت صحة المزاعم الإسرائيلية، ما أسقط الرواية الأمنية التي بُني عليها التدخل برمّته.
ومع ذلك، يبدو أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وجد في هذا النموذج ما يلبّي أهدافه السياسية والأمنية. فمن جهة، ينطوي هذا الأسلوب على بعدٍ إذلالي واضح، يُراد منه إخضاع البيئة الجنوبية وإشعارها بأنها موضع اشتباه دائم. ومن جهة أخرى، يحمل في طيّاته مآلات مستقبلية بالغة الخطورة، قد تؤدي إلى تصادم مباشر بين الجيش اللبناني والأهالي، وهو تصادم لا يبدو عرضيًا، بل يخدم استراتيجية أعمق.
الهدف النهائي، وفق هذا المنظور، هو شيطنة أهالي الجنوب، وتحويلهم في الخطاب الدولي إلى عبء أمني، تمهيدًا لتبرير سياسات التهجير القسري أو الطوعي، والعمل لاحقًا على فرض منطقة أمنية عازلة تُفرغ الأرض من سكانها، وتُحوّل الجنوب إلى مساحة مراقَبة، خاضعة لشروط العدو ومصالحه.
من هنا، لا يمكن التعامل مع هذا المقترح بوصفه إجراءً تقنيًا عابرًا، بل ينبغي قراءته كحلقة في مسار متكامل يستهدف إعادة هندسة الواقع الأمني والاجتماعي في جنوب لبنان إلى حساب السيادة الوطنية، والاستقرار الأهلي، ودور الدولة نفسه.














