| جورج علم |
فيما كانت طائرة البابا لاوون الرابع عشر تقترب من بلاد الأناضول، وجّه المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني رسالة إلى القيادة الإيرانيّة حول “خطورة ما يعانيه الشيعة في لبنان من إستغلال”.
وجاء في رسالة السيستاني أيضاً: “لا يجوز ترك المجتمع الشيعي اللبناني عرضة لحرب جديدة، لما قد يترتب على أي مواجهة من موجات تهجير إضافية، وتدهور في أمن القرى والبلدات، وتفاقم هشاشة البيئة الاجتماعية التي أنهكتها الحرب طوال الأشهر الماضيّة”.
ترافق توقيت الرسالة مع حدثين:
الأول، بدء زيارة البابا لكلّ من تركيا ولبنان.
الثاني، تصريح المستشار السياسي للمرجع الايراني الأعلى الدكتور علي أكبر ولايتي حول “حزب الله” بأنه “لا غنى عنه في لبنان لمواجهة الاعتداءات الإسرائيليّة”، وأن الحزب “اكثر ضرورة للبنان من الماء والخبز”.
ماذا في الخلفيات؟
حرصت دوائر الفاتيكان على التنسيق مع مرجعيّة النجف، حول أهداف التحرّك البابوي في المنطقة إنطلاقاً من لبنان.
وهذا التنسيق ليس بجديد، إنه ساري منذ عقود، وقد كرّسه لقاء القمة بين البابا الراحل فرنسيس، والمرجع الأعلى السيستاني، في مدينة النجف العراقيّة، يوم السادس من آذار 2021، حيث “شدّد الزعيمان الدينيّان على أهمية نبذ لغة الحرب، وتغليب صوت العقل والحكمة”.
وشدّدت دوائر الفاتيكان ـ وفق مدونة دبلوماسيّة على أمرين:
الأول، إن إستهداف أي طائفة في لبنان، إنما هو إستهداف لمشروع الفاتيكان الذي يريد لبنان “وطن الرسالة، مختبر الحضارات، وحوار الثقافات والمعتقدات”.
الثاني، إن إستهداف أي طائفة، إنما هو إستهداف لمشروع الدولة في لبنان، وللعيش المشترك، وللميثاقية التي كفلها الدستور اللبناني، ولـ”الصيغة الحضارية التي ميّزت هذا الوطن الصغير عن غيره من سائر الأوطان”.
ويأتي موقف ولايتي، ليعبث بما يُرتّب في الزوايا الدبلوماسيّة الخلفية، والتي تطبخ فيها على نار هادئة كيفية إطلاق حوار متكافىء بناء بين لبنان و”إسرائيل”، يحقق الأغراض التي تنادي بها الحكومة اللبنانية، ورئيس الجمهوريّة جوزاف عون.
ربما أراد أن يوحي بأن ما قاله، إنما يأتي تعليقاً على إغتيال القائد هيثم الطبطبائي في الضاحية الجنوبيّة، لكن الهدف “المروّس” كان التصويب على على الرسائل المتبادلة ما بين الفاتيكان ومرجعيّة النجف الشيعيّة حول كيفية تجنيب لبنان كأس حرب إسرائيليّة مدمّرة يستعدّ لها بنيامين نتنياهو، مع وزير دفاعه، وأركان حربه، بحجة مواجهة “حزب الله” الذي “حصل على مليار دولار خلال الأشهر العشرة الأولى من العام الحالي 2025، ويعيد بناء منظومته الصاروخيّة، وترسانته العسكريّة”!
والحقيقة أن القاهرة قد إستشعرت هذا “التحرّك الهادىء والرصين” من قبل الفاتيكان، وإتضح أن جانباً من المحادثات التي أجراها وزير الخارجية بدر عبد العاطي في بيروت، كان إستباقاً لزيارة بابا الفاتيكان، وما يمكن أن يطرحه خلال محادثاته مع كبار المسؤولين، لتجنيب بيروت، ولبنان، جولة جديدة من التدمير، والتهجير، وتوسيع مساحة الأرض المحروقة، تحت شعار “الإنتقام من حزب الله وسلاحه”.
وتوقع عبد العاطي ردّة الفعل الإيرانيّة، إستناداً إلى ما أعلنه أكثر من مسؤول إيراني بعيد إغتيال الطبطبائي. إلاّ أنه نظر إلى الموضوع من منظار آخر، وعلى قاعدة أن تصريح ولايتي إنطوى على شحنة كبيرة من الغضب، وهو الدبلوماسي الهادىء والرصين. وهذا تصرف متوقع نتيجة الحصار السياسي والدبلوماسي والاقتصادي ضدّ إيران، والذي تقوده الولايات المتحدة في الغرب كما في الشرق، وعلى مستوى الدول الكبرى الفاعلة والمؤثرة، وأيضاً على مستوى المنظمات الدوليّة، والشركات العملاقة المعنية بقطاع النفط والطاقة.
وإذا كان ولايتي، المقرّب من المرجع الأعلى علي خامنئي، يرفض أي حوار بين لبنان و”إسرائيل”، قبل إنطلاق “الحوار المتكافىء” ما بين إيران والولايات المتحدة، فكيف به أن يقبل بإنطلاق حوار فاتيكاني مع ركن بارز في الطائفة الشيعية لتجنيب لبنان تداعيات حرب وشيكة تستعد لها “إسرائيل”؟
والمسألة عنده باتت أبعد من المفاوضات، وأبعد من كل ما يجري وراء الأبواب الموصدة، من مقترحات حلول، ومخارج، لتجنيب لبنان كأس الحرب. المسألة عنده تتوقف عند المحاولات الجديّة والدؤوبة لإبطال الدور الإيراني في بيروت، أو لرفع الغطاء الإيراني عن شيعة لبنان، كما جاء في رسالة السيستاني. وهذا يصنّف من منظار ولايتي على أنه جزء من الحصار، ومن العقوبات المفروضة على إيران لقطع حبل السرّة مع “حزب الله” في لبنان، والحوثي في اليمن، و”حماس” في غزّة، وسائر جبهات محور الممانعة، ووحدة الساحات.
ويلتقي نتنياهو ـ بالمقابل – مع هذا التوجه، لكن لحسابات مختلفة. ليس من مصلحة تل أبيب أن تنجح جهود الفاتيكان في إيجاد وسيلة دبلوماسيّة لإخراج الأزمة في لبنان من عنق الزجاجة، أو بكلام أوضح من فكي الكماشة الإيرانيّة ـ الإسرائيليّة. ليس من مصلحتها وقف إعتداءاتها على لبنان. لم يعد الهدف “حزب الله”، وسلاحه، بل فرض أمر واقع على لبنان، بالحديد والنار، وإرغامه على توقيع إتفاق يبقي الجنوب، ومناطق أخرى، تحت عين الرقابة الإسرائيليّة.
يبقى السؤال: أين يقف الأميركي دونالد ترامب من كل هذا الذي يهندسه، ويسعى إليه، الأميركي الآخر الذي أُعطي له مجد الفاتيكان، والجالس حاليّاً على كرسي بطرس الرسولي؟
الجواب متعدّد الأوجه، نظراً لتعدّد الأهواء، والأغراض، والمصالح. لكن الجديد هو دخول المرجع السيستاني على “البازل” اللبناني، والتحول الكبير الذي بدأت تظهر معالمه في أوساط “شيعة لبنان”!














