| خاص “الجريدة” |
لم يتخيّل الشاب حسن البنّا، حين كان يدرّس في مدارس الإسماعيلية في أواخر عشرينيات القرن الماضي، أن الدروس المسائيّة التي كان يلقيها على مجموعة من العمّال ستتحوّل إلى واحدة من أكثر الحركات الإسلامية تأثيراً في العالم العربي.
لم يكن البنّا ينشط في فراغ. كانت مصر ترزح تحت النفوذ البريطاني، وتعيش اضطراباً سياسياً بين الملكية والأحزاب، فيما كان العالم الإسلامي يواجه صدمة سقوط الخلافة العثمانية. في هذا المناخ، وُلدت حركة “الإخوان المسلمين” عام 1928 كفكرة إصلاحية، قبل أن تتطوّر إلى تنظيم قادر على التمدّد خارج حدود مصر، بل ولتصبح لاحقاً “أمّ” معظم الحركات الإسلامية المعاصرة.
من الدعوة إلى التنظيم المحكم
بدأت جماعة “الإخوان المسلمين” باعتبارها إطاراً دعوياً تربوياً، لكن البنّا لم يُخفِ اقتناعه بأن “الإسلام نظام شامل”، يشمل الدين والسياسة والمجتمع والاقتصاد. لذلك، أخذت الجماعة، منذ سنواتها الأولى، شكل تنظيمٍ محكمٍ يقوم على حلقات “التربية” الصغيرة، التي تتحوّل تدريجياً إلى شبكات بشرية متماسكة.
اعتمدت الجماعة بناءً تنظيمياً صارماً: حلقات صغيرة تُربّي الأفراد، شُعب محلية، مناطق، وصولاً إلى “مكتب الإرشاد”.
هذا ما جعلها، باكراً، قوة مجتمعية حاضرة في الأحياء الشعبية، قادرة على ملء الفراغ الذي تركته الدولة في مجالات التعليم والخدمات والرعاية الاجتماعية.
بين السلمية والعمل السري
رغم الخطاب الإصلاحي العام، عرفت حركة “الإخوان” منذ الأربعينيات ازدواجية واضحة: نشاط دعوي وسياسي علني، إلى جانب “النظام الخاص”، الجهاز السري الذي نفّذ عمليات ضد أهداف بريطانية ومصرية. هذا الجهاز أدخل الجماعة في صدامات كبرى مع النظام، وأدى إلى حلّها سنة 1948، وإلى اغتيال رئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي، ثم لاحقاً اغتيال البنّا نفسه في العام التالي.
هذه المواجهات المبكرة رسمت حدود العلاقة بين “الإخوان” والسلطة في مصر طوال عقود: السماح ثم المنع، الشراكة ثم الاعتقالات، المشاركة السياسية ثم الحظر. ورغم ذلك، لم تنجح أي سلطة في إنهاء وجود الجماعة اجتماعياً.
شبكة خارج الحدود
خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، انتقلت “الفكرة الإخوانية” إلى دول عربية عدة عبر طلابٍ ومثقفين فرّوا من ملاحقات الحكم الناصري. هكذا ظهرت فروع قوية في الأردن وسوريا، وتأسست “حماس” في فلسطين لاحقاً. وفي الخليج، وجدت الجماعة مساحة للنشاط الدعوي والتربوي، فيما تحوّلت في السودان وتونس والمغرب إلى أحزاب سياسية تنافس في الانتخابات وتشارك في الحكومات.
هذا الانتشار منح الحركة طابعاً شبكيّاً دولياً: فروع محلية ذات خصوصية وطنية، لكنها مرتبطة بفكر واحد ومظلّة تنظيمية عامة.
المواجهة الأكبر
منذ محاولة اغتيال جمال عبد الناصر عام 1954، دخلت الجماعة مرحلة صدام طويلة مع الدولة المصرية.
امتلأت السجون لعقود، وأُعدم سيّد قطب، الذي تحوّلت كتاباته إلى أهم مرجعيات التيارات الإسلامية الحديثة.
لكن رغم القمع، بقيت الجماعة الأكثر تنظيماً داخل المجتمع، إلى أن بدأت تعود تدريجياً إلى المجال العام في عهدَي السادات ومبارك، وصولاً إلى دخول نوّابها البرلمان كـ”مستقلين” في انتخابات متتالية.
سيّد قطب.. الذي غيّر لغة الحركة
لم يكن سيّد قطب مجرد عضو بارز في جماعة “الإخوان المسلمين”. كان المفكّر الذي سيقود الحركة، من دون أن يقصد، إلى واحدة من أهم التحوّلات الفكرية في تاريخها.
دخل قطب إلى “الإخوان” في مطلع الخمسينيات، قادماً من خلفية أدبية نقدية، كاتباً رقيق العبارة، يكتب في الصحف وينشر دراسات عن الشعر واللغة. لكن انتقاله إلى “الإخوان” كان بداية مسار آخر، ستشكّل نهايته معالم خطاب جديد.
قبل السجن، بدا قطب أقرب إلى إصلاحي مهجوس بضرورة “العودة إلى جوهر الإسلام”. لكن سنوات الاعتقال الطويلة التي قضاها بعد العام 1954 تحت حكم جمال عبد الناصر غيّرته جذرياً. خرج من الزنزانة وهو يرى أنّ المجتمع ابتعد عن قيم الإسلام إلى حدّ أصبح فيه بحاجة إلى “إعادة بناء”.
خلال تلك السنوات، كتب أهم مؤلفاته: “معالم في الطريق”، و“في ظلال القرآن”، وكتابات أخرى صاغ فيها مفاهيم أثارت جدلاً عميقاً، مثل “الجاهلية المعاصرة” و“الحاكمية”. لم يدعُ قطب إلى صدام مباشر، لكنه قدّم رؤية مثالية لمجتمع إسلامي قائم على مبدأ واحد: “لا حاكمية إلا لله”.
بعد إعدامه عام 1966، تحوّلت كتبه إلى ما يشبه “المرجعية الروحية” داخل قطاعات من “الإخوان”، وخصوصاً بين الأجيال الشابة.
كانت المفارقة لافتة: الرجل الذي أُعدم بتهمة التطرف، لم تكن كتاباته في أصلها تنظيراً للعنف، بل محاولة فكرية لصياغة دولة إسلامية “مثالية”. لكن الغموض في بعض العبارات، واللغة الحماسية التي اختلط فيها الدين بالاجتماع والسياسة، جعلت أفكاره لاحقاً أرضاً خصبة لتأويلات متشدّدة، سواء داخل الجماعة أو خارجها.
بالنسبة لكثيرين من أبناء “الإخوان”، كان قطب رمزاً للصمود. وبالنسبة لآخرين، كان نقطة الانعطاف التي نقلت الحركة من الإصلاح الاجتماعي الهادئ إلى خطاب أشدّ راديكالية.
لكن المؤكد أنّ تأثيره بقي حاضراً حتى بعد عقود، وأنّ أفكاره أصبحت جزءاً من النقاش الداخلي حول هوية الجماعة واتجاهها في العالم العربي.
من ابن تيمية إلى “الإخوان”.. ثم إلى “القاعدة” وسواها
رغم أن “الإخوان” جماعة حديثة نسبياً، إلا أن الكثير من أفكارها تستند، بشكل مباشر أو غير مباشر، إلى تراث فقهي قديم، تحديداً إلى ابن تيمية الذي دعا قبل قرون إلى ضرورة الاحتكام المباشر إلى النص الديني ورفض البدع والانحراف عن “الأصل”.
هذا التراث أعادته الجماعة إلى الساحة الحديثة عبر صياغة تربط بين الدعوة اليومية والسياسة.
ومن هذه “الشجرة الفكرية” خرجت لاحقاً تيارات عدة. فبعض منظّري “القاعدة” كانوا متأثرين بخطوط قطب، وإن اختلفوا معها لاحقاً. كذلك استندت حركات كثيرة في المنطقة إلى أدبيات “الإخوان”، قبل أن تتفرّع عنها أو تواجهها.
لذلك يُقال عن الإخوان إنهم “أمّ الحركات الإسلامية الحديثة”: منهم خرجت أفكار إصلاحية، وأخرى تنظيمية، ومنها صعدت تيارات أكثر تشدداً أو أكثر براغماتية.
خلافٌ وتقاطعٌ مع الوهابية
العلاقة بين “الإخوان” و”الوهابية” كانت دائماً معقّدة. “الوهابية”، التي نشأت في الجزيرة العربية قبل قرنين، حركة سلفية تعمل على “تنقية العقيدة” و”العودة إلى النصوص”، بينما كانت جماعة “الإخوان” حركة شمولية تبني مجتمعاً سياسياً إسلامياً معاصرًا.
لكن في منتصف القرن العشرين، التقيا في نقطة براغماتية: دول الخليج وفّرت ملاذاً لآلاف “الإخوان” الذين فرّوا من ملاحقات الناصرية، ما أدى إلى تلاقح فكري وتنظيمي؛ مدارس وجامعات ومساجد تأثرت بالفكر الإخواني داخل بيئة سلفية.
لاحقاً، ظهر الخلاف بوضوح. السلفيون رأوا أنّ “الإخوانيين” سياسيون “أكثر مما يجب”، فيما اتُهم “الإخوان” بأنهم “دعويون لا يملكون وضوحاً عقائدياً كافياً”. لكن رغم التباينات، بقي التقاطع قائماً في قضايا مشتركة، أهمها مواجهة الأنظمة القومية واليسارية في القرن الماضي.
الانتشار العربي شبكة لا مركزية
انتشرت الجماعة سريعاً خارج مصر: فروع قوية في الأردن وسوريا، تأسيس “حماس” في فلسطين، وتنظيمات في السودان وتونس والمغرب واليمن والكويت.
الخصوصية أنّ كل فرع محلي امتلك تجربته الخاصة، لكنه ظلّ مرتبطاً بمفهوم “الإسلام الشامل” الذي نادت به الجماعة الأم.
صعود الربيع العربي.. “اللحظة الذهبية”
عام 2011 بدا أنّ “الإخوان” يقفون على عتبة أكبر فرصة سياسية في تاريخهم. فبعد سقوط نظام مبارك، وصل محمد مرسي إلى الرئاسة عبر انتخابات حرة، وصعدت أحزاب إخوانية إلى الحكم في تونس والمغرب. وتبنّت إدارة باراك أوباما رؤية تعتبر أنّ إدماج الإسلاميين في العملية السياسية قد يضمن استقراراً على المدى الطويل.
لكن التجربة المصرية لم تصمد. فالصراع الداخلي، والانقسام المجتمعي، وأزمات الحكم، قادت إلى 30 حزيران/يونيو وعزل مرسي، ثم إلى عودة “الإخوان” إلى خانة الحظر والملاحقة.
بعد قرن.. إرث ثقيل ومستقبل غامض
اليوم، تقف الجماعة أمام مشهد شديد التعقيد: تراجع نفوذها في مصر، وتشتت فروعها، وتنافسها مع حركات خرجت من رحمها. لكن إرثها الفكري والتنظيمي لا يزال حاضراً في النقاشات الكبرى حول الدين والدولة والسياسة.
من غرفةٍ صغيرة في الإسماعيلية، إلى حركةٍ غيّرت وجه العالم العربي… هذا هو التاريخ الذي ما زال يلقي بظلاله حتى الآن.














