| ميرا عيسى |
في الأنظمة التي تُتقن فنّ الإخفاء، لا يختفي الإنسان فقط، بل تُمحى سيرته، وتُكسر ذاكرته، وتُشوّه ملامحه في أرشيف الوطن. لكن بعض الأصوات، مهما دُفنت، تعود من حيث لا يتوقع الجلاد. في زمنٍ يَقتُلُ فيه الاستبداد حتى صدى الأصوات، لم تصلنا من فرج الله الحلو المناضل الشيوعي لا وصية، ولا اعتراف، ولا دمعة. فقط فراغٌ طويل، وجثة لم تُسلَّم، وذاكرة تقاوم النسيان. لكن ماذا لو كتب لنا؟ ماذا لو ترك رسائل لم تجد طريقها إلينا إلا الآن، رسائل لم تمر بالبريد ولا بالرقابة، بل وصلت كأنها نُحتت في الغياب نفسه؟
النشأة وبدايات الوعي
وُلد فرج الله الحلو عام 1906 في بلدة حصروت (جنوب لبنان) لأسرة مسيحية مارونية متواضعة. في شبابه، تأثر بالحراك الفكري والسياسي في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، خصوصًا بعد إنهيار الدولة العثمانية، وبدء الانتداب الفرنسي على لبنان وسوريا.
إنخرط مبكرًا في العمل الوطني، ومع تصاعد المد الماركسي، وجد في الشيوعية أداة لفهم الواقع وتغييره، خصوصًا في ظل الاستعمار والتفاوت الطبقي الصارخ.
العمل السياسي ودوره في الحزب الشيوعي
إلتحق فرج الله الحلو بالحزب الشيوعي السوري – اللبناني (كما كان يُعرف حينها)، وسرعان ما أصبح من أبرز منظّريه وقادته. عُرف بقدرته الفكرية والتنظيمية، وسعيه الدائم إلى بناء حزب جماهيري يعبر عن تطلعات الفئات الشعبية المهمشة.
في ظل الوحدة المصرية- السورية (1958–1961)، التي كانت تحت قيادة جمال عبد الناصر، بدأت حملة على الأحزاب والتنظيمات اليسارية، خاصة الحزب الشيوعي. وفي هذا السياق، تم اعتقال فرج الله الحلو في دمشق عام 1959، ليتبين لاحقاً إغتياله في سوريا وإخفاء جثته بتذويبها بالأسيد من قبل النظام السوري السابق، الذي بني على القمع والاستبداد وقتل الحرية، فأخافهم الحلو بتحرره وبفكره اللاتقليدي، وبثورته التي طالت مجتمع بأكمله محاولة منه للتغيير نحو بيئة مدنية علمانية اشتراكية.
فسقطت الانظمة المستبدة ولم يسقط فرج الله الحلو.
من المناضل الغائب.. رسائل لم تكتب
إلى الرفيق الذي لم أولد لأعرفه
كنت أظن أن الموت سيكون آخر كل شيء، لكنه على ما يبدو، أول الرسائل.
لا أعرف إن كنت تقرأني من وطنٍ أفضل، أم من منفى يشبه زنزانتي.
لا يهم، ما دمت ما زلت تؤمن بأن للفكرة حياة أطول من صاحبها.
لا تبحث عن عظامي، لقد أذابوها بالحقد.
لكن الفكرة؟ تلك التي لا تذوب.
إن مُتّ أنا، فلا تمُتْ أنت بالصمت.
فإكمل طريقي يا رفيقي بالكفاح، ولا تمت وانت حي..
ايها العامل الذي قتلته انياب الامبريالية، لا تسقط عن حقك وطالب وارفض.
إلى جلادي العزيز
أعلم أنك ستكمل وجبتك بعد تعذيبي. ستشرب قهوتك. ستقابل أصدقاءك.
قد تضحك، وقد تحب، وقد تكتب شعرًا سرًا.
لكنّي أكتب لك كي تعرف:
الألم لا يبقى في السجن، هو يهرب في صرخة، في لحن، في كلمة، ويجدك في نومك.
أنا لست هنا فقط. أنا في ابنك حين يسألك: “بابا، ليش الناس بخافوا منك؟”
إلى اليسار العربي
لا يكفي أن تكون ضد المصطلحات، من دون العمل على الارض، قاوم الرأسمالية على مذبح الوطن، إسعى لتصل.
لا يكفي أن ترفع صور لينين وتغضّ النظر عن قمع الأنظمة.
لا تكونوا رجال من زمن اخر، بل أنتم أصل المقاومة وركائزها.
لا تكُن يسارًا يُدافع عن السجّان حين يكون “تقدميًا” بالاسم.
إن لم نكن نحن الضمير، فمن؟
لا تساوموا على الحرية. فهي ليست برجوازية، بل شرطٌ أوليّ للكرامة.
إلى نفسي
هل كنتَ حالمًا أكثر من اللازم؟
ربما.
فنحن الشيوعيين أتينا من عالم اخر لمكان لا يستحق فكرنا ولا يفهمه
لكن لا بأس.
في هذا القبر الطويل، لا أندم إلا على لحظات السكوت.
لقد صرختُ، ووقفتُ، وخسرتُ، نعم…
لكني لم أبع نفسي للحظة.
وإذا كان هذا هو الثمن؟ فليكن.
لا نعلم متى كُتبت هذه الرسائل، أو إن كانت قد كُتبت أصلاً.
لكن الأكيد أن فرج الله الحلو لا يزال يكتب فينا.
صوته حيّ في كل سؤال عن الحرية، في كل وقوف في وجه القمع، وفي كل لحظة يُختار فيها الموقف على السلامة.
زنزانته كانت النهاية، لكنها أيضًا كانت بداية الكتابة التي لا تُمح.
للانضمام إلى مجموعة “الجريدة” إضغط على الرابط
https://chat.whatsapp.com/KcTcdtSlZ5a0SaZPTZsoiV?mode=ems_cop














