أكد المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان أنه، وبعد مرور شهر على إعلان “وقف إطلاق النار” في قطاع غزة، ما تزال إسرائيل تواصل تنفيذ جريمة الإبادة الجماعية ضد المدنيين الفلسطينيين بأساليب متعددة، وتستمر في فرض ظروف معيشية مهلكة على مليوني فلسطيني، مع حرمانهم من التعافي من آثار الكارثة الإنسانية المستمرة منذ أكثر من 25 شهرًا، في ظل صمت وعجز دولي عن حمايتهم وإنصافهم.
ووثّق المرصد الأورومتوسطي خلال الأسابيع الأربعة الماضية استمرار جرائم القتل العمد التي ينفّذها جيش الاحتلال الإسرائيلي ضد المدنيين الفلسطينيين، إذ يُقتل ما معدله ثمانية فلسطينيين يوميًا، في ظل استمرار الحصار الشامل المفروض على القطاع، وما يرافقه من سياسة تجويعٍ متعمّد وحرمان للسكان من سبل البقاء، ومنعٍ لإعادة الإعمار، وتقييد لحرية التنقّل، وحرمان للجرحى والمرضى من العلاج، وتعطيل متعمّد لدخول المساعدات الإنسانية، في سياق يشكّل امتدادًا لجريمة الإبادة الجماعية المستمرة ضد سكان قطاع غزة.
وكشف أنّ جيش الاحتلال الإسرائيلي يواصل ارتكاب خروقات وجرائم يومية لوقف إطلاق النار، من خلال القصف الجوي والمدفعي وإطلاق النار، والاستمرار في تدمير المنازل والمباني، خاصة في شرق مدينتي خان يونس وغزة، مؤكدًا أنّ هذه الأفعال تعكس نهجًا منظّمًا لتدمير مقوّمات الحياة في القطاع وحرمان سكانه من أبسط حقوقهم، في انتهاك جسيم لأحكام القانون الدولي.
وواصل جيش الاحتلال الإسرائيلي منذ بدء سريان اتفاق وقف إطلاق النار في 10 تشرين الأول قتل المدنيين الفلسطينيين، إذ قتل خلال هذه الفترة 242 فلسطينيًا، من بينهم 85 طفلًا، بمعدل يزيد على ثمانية قتلى يوميًا، وأصاب نحو 619 آخرين، أي أكثر من 20 إصابة يوميًا، في مؤشّر واضحٍ على أنّ إسرائيل لم تتوقف عن نهجها القائم على قتل الفلسطينيين واستهدافهم المنهجي.
ونبّه المرصد إلى أنه، مع غياب أيّ آلية رقابة دولية فعّالة لوقف إطلاق النار، تواصل إسرائيل انتهاكاتها على أرض الواقع، بما في ذلك من خلال إخراج المناطق التي تسيطر عليها – والتي تزيد مساحتها عن 50% من مساحة القطاع – من معادلة وقف الأعمال الحربية، حيث استمرّت في تنفيذ عمليات النسف والتدمير دون وجود أعمال قتالية.
وأكد الأورومتوسطي أنّ “إسرائيل” تستغل غياب الرقابة الدولية لتعيد تشكيل الجغرافيا الميدانية في غزة، وتستخدم وقف إطلاق النار كغطاء لاستكمال تدمير بيئة الحياة حاليًا ومستقبلًا في المناطق التي تسيطر عليها عسكريًا بشكل مباشر، مؤكدًا أنّ ما يجري لا يقتصر على خروقات للاتفاق، بل يشكّل عمليًا تحويلًا للهدنة إلى أداة لتوسيع السيطرة وتنفيذ تدمير شامل طويل الأمد.
وشدد المرصد الأورومتوسطي إلى أنّ “إسرائيل” تواصل هندسة سياسة التجويع وإدارتها في قطاع غزة، إذ عطّلت دخول نحو 70% من المساعدات التي كان يفترض إدخالها بموجب الاتفاق، وتتحكّم بنوعية البضائع عبر سياسة تقطير منهجي للسلع الأساسية ذات القيمة الغذائية مثل اللحوم والألبان، مقابل إغراق الأسواق بمنتجات ثانوية عالية السعرات الحرارية، بما يُبقي السكان في حالة جوعٍ مزمن خاضعة للسيطرة، من غير معالجة لأسبابه أو لآثاره الصحية الخطيرة، ومن غير أن تظهر عليهم العلامات الحادّة لسوء التغذية.
وأشار المرصد الأورومتوسطي إلى أنّ الاحتلال الاسرائيلي يواصل إغلاق معبر رفح ومنع حركة السفر في الاتجاهين، ما أدّى إلى شلّ حركة المدنيين، بمن فيهم الجرحى والمرضى، فيما تُعطّل تنفيذ المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار.
وشدّد على أنّ هذه الأفعال لا تمثّل حوادث منفصلة، بل تشكّل جزءًا من نمط منظّم يعكس توجّهًا واضحًا لدى المستويين السياسي والعسكري للاحتلال الإسرائيلي لاستغلال اتفاق وقف إطلاق النار كغطاء لاستمرار جريمة الإبادة الجماعية ضد سكان قطاع غزة، عبر إبقاء العدوان العسكري في حالة استمرارية مقنّعة، وتكريس واقع من القتل والتجويع والتدمير المنهجي في ظل غياب الإرادة الدولية لحماية المدنيين ومساءلة مرتكبي الجرائم ضدّهم.
وأعاد المرصد التحذير من أنّ أخطر ما يجري حاليًا هو تفكيك وحدة النطاق الجغرافي لقطاع غزة، وتحويله إلى مناطق معزولة غير قابلة للحياة، بما يكرّس واقعًا دائمًا من الانقسام الجغرافي والديموغرافي، ويدفع السكان نحو التهجير القسري باعتباره الخيار الوحيد للنجاة.
وحذّر المرصد الأورومتوسطي من أنّ استمرار صمت المجتمع الدولي، وعجزه عن تفعيل آليات المساءلة، يمنح الكيان الإسرائيلي غطاءً عمليًا لمواصلة ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، ولو بوتيرة بطيئة، تسير ضمن سياسة ثابتة تهدف إلى القضاء الكامل على الوجود الفلسطيني في قطاع غزة، مطالبًا المجتمع الدولي باتخاذ خطوات عملية وفورية لفرض حماية حقيقية للمدنيين الفلسطينيين، وضمان الانسحاب الكامل لقوات الاحتلال الإسرائيلي من قطاع غزة، والإنهاء الفوري والشامل للحصار غير القانوني المفروض على قطاع غزة، وضمان فتح جميع المعابر أمام حركة الأفراد والبضائع، بما في ذلك المرضى والجرحى، تحت إشراف الأمم المتحدة ومؤسساتها ووكالتها المختصة.
كما طالب بضمان دخول آمن وكافٍ ومنتظم للمساعدات الإنسانية، وخاصة الغذاء والدواء والوقود ومستلزمات إعادة تشغيل المرافق الصحية والخدمية، ومنع “إسرائيل” من الاستمرار في التحكم الكمي والنوعي بالمساعدات أو عرقلتها.
وشدّد الأورومتوسطي على ضرورة ضمان عودة آمنة لجميع المهجّرين قسرًا إلى منازلهم ومناطق سكنهم الأصلية داخل القطاع، ورفض أيّ ترتيبات أو مشاريع تهدف إلى ترسيخ التهجير القسري أو فرض مناطق عزل أو “مناطق إنسانية” بديلة عن موطنهم الأصلي، داعيًا إلى نشر بعثة دولية فعّالة تحت مظلة الأمم المتحدة لمراقبة السلوك “الإسرائيلي”، وتوثيق الخروقات، وتوفير وجود وقائي يحدّ من اعتداءات جيش الاحتلال الإسرائيلي، ويسهم في حماية المدنيين والبنية التحتية المدنية.
وحثّ الدول على وقف تصدير السلاح والمعدات العسكرية والأمنية إلى “إسرائيل”، واستيرادها منها، وتعليق أيّ تعاون عسكري أو أمني معها، التزامًا بواجبها في منع الإبادة الجماعية وعدم الإسهام في ارتكاب جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية.
وطالب المرصد الأورومتوسطي الدول والمنظمات الإقليمية، ولا سيما الدول الأطراف في اتفاقية الإبادة الجماعية، باتخاذ تدابير سياسية واقتصادية وقانونية فعّالة، بما في ذلك فرض عقوبات مستهدفة وتعليق اتفاقات الشراكة والتعاون مع “إسرائيل”، إلى حين امتثالها لالتزاماتها بموجب القانون الدولي.
ودعا جميع الدول إلى دعم تحقيقات المحكمة الجنائية الدولية وتنفيذ أوامر محكمة العدل الدولية ذات الصلة، وإعمال ولاياتها القضائية الوطنية لملاحقة المتورطين في جرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في غزة، وعدم توفير أيّ ملاذ آمن لهم.
كما دعا إلى إنشاء آلية دولية للتعويض وإعادة الإعمار، تضمن جبر الضرر للضحايا المدنيين وإعادة بناء المنازل والبنى التحتية والمرافق الحيوية في القطاع، على نحو لا يعيد إنتاج السيطرة “الإسرائيلية” على الموارد والمعابر والحركة.














