| فيصل طالب | (*)

تشكّل الإدارة المحلية جزءاً حيوياً من التنظيم الإداري اللامركزي لأيّ دولة حديثة. وهي تقوم على اضطلاع وحدات إدارية تتّسم بشخصية اعتبارية بممارسة صلاحياتها في النطاق الجغرافي المحدّد لكلّ منها بصورة مستقلة، وفي حدود القوانين العامة للدولة، بما يسمح لها أن تكون رافعة للإنماء المتوازن والمستدام، ومجالاً مؤاتياً لتحقيق المشاركة في القرار. ولذلك فهي ضرورة وطنية لإعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة، باعتبارها نقطة الالتقاء الأولى بينهما، ولتوطيد قواعد الإدارة الرشيدة، وتحسين المستوى المعيشي للمواطنين في النطاق الذي يعيشون فيه.
لقد آن الأوان للانتقال من المركزية المثقلة بالأعباء والقصور، إلى لامركزية حيوية تتيح للمجتمعات المحلية أن تشارك في رسم أولوياتها، وإدارة مواردها وشؤونها اليومية والخدماتية بشكل أكثر كفاءة وفاعلية، والاستفادة من توزيع أكثر عدالة للمداخيل العامة؛ وذلك من خلال قدرة السلطة المحلية على مقاربة الحاجات المناطقية، كالصحة والتعليم والمياه والطرق والنظافة والإنارة وخدمات الإطفاء والدفاع المدني…، وصياغة المخططات الهيكلية للمدن والبلدات والقرى، وما يرتبط بها من أعمال التنظيم المدني، ووضع حلول للمشاكل المرورية، وتنظيم الأسواق التجارية، وإقامة المشروعات الاقتصادية المحلية، وتعزيز واقع البنية التحتية الثقافية والسياحية، وتشجيع الأنشطة ذات الصلة، وإدارة المرافق الرياضية، وتقديم المساعدات الاجتماعية للفئات المحتاجة، ورعاية المسنّين والأيتام…، مع ما يرافق ذلك من سرعة الاستجابة، واتخاذ القرارات المناسبة والملاءمة للظروف والمعطيات والحاجات المحلية، بعيداً من الروتين والبيروقراطية المركزية؛ وهو ما يؤول إلى تخفيف الأعباء عن السلطة المركزية لتتفرّغ لوضع السياسات العامة والاستراتيجية للدولة، في التربية والدفاع والأمن والسياسة الخارجية والموازنة العامة وغيرها…
ما هي هيئات الإدارة المحلية في لبنان؟
تمثّل البلديات الركيزة الأساسية في الإدارة المحلية وأقرب السلطات إلى المواطن، وهي تعنى بإدارة شؤون منطقة جغرافية معيّنة (مدينة، بلدة، قرية)، وتحظى بالاستقلال الإداري والمالي في حدود القانون. تُنشأ البلدية بموجب مرسوم يصدر عن مجلس الوزراء، وتدار من قبل مجلس بلدي منتخب لمدة ست سنوات، يتولّى وضع السياسات والبرامج والمشاريع التنموية، وإقرار الموازنات السنوية، ويدير رئيس البلدية جلساته، وينفّذ قراراته. أهم صلاحيات البلدية، في إطار تطوير البنية التحتية وتوفير الخدمات العامة، جباية الرسوم البلدية، وتشجيع التنمية المحلية، والحفاظ على البيئة والنظام العام، ورعاية شؤون النظافة والإنارة وتنظيم السير والطرقات العامة، وإنشاء الحدائق والساحات العامة، وإصدار رخص البناء ومراقبة المخالفات في هذا الإطار، وتنظيم الأسواق والمسالخ والمواقف العامة والمقابر، ودعم الأنشطة الاجتماعية والثقافية والرياضية، وتحسين الخدمات الصحية والبيئية…
أمّا مجالس الأقضية التي لم تُنشأ فعلياً، على الرغم من تضمين وثيقة الوفاق الوطني الصادرة في العام ١٩٨٩ نصّاً واضحاً باعتماد اللامركزية الإدارية الموسّعة، فهي هيئات منتخبة تمثّل مدن وبلدات وقرى القضاء (أو ما دونه)، وتعنى بالتنمية المحلية على مستوى أوسع من البلدية، ويشكّل كل منها وحدة إدارية وسطى بين المحافظة والبلدية، وتمتلك صلاحيات مالية وإدارية تحت رقابة السلطات المركزية لضمان وحدة الدولة وتوازنها.
إن اللامركزية لا تعني فقط نقل الصلاحيات من الإدارة المركزية إلى الإدارات المحلية، بل تؤكد قبل كل شيء على بناء شراكة حقيقية بين المواطن والدولة، وتداول السلطة على المستوى المحلي، وترسيخ مبدأ المساءلة وثقافة الحكم الرشيد. وفي هذا الإطار تبقى البلديات مسؤولة عن إدارة الشأن المحلي المباشر، من خدمات وتوفير تجهيزات وبنى تحتية وتفاعل يومي مع المواطنين في المدن والقرى والبلدات. أما مجالس الأقضية في نطاق اللامركزية عند تطبيقها، فهي مصمّمة لتشكّل مستويات تنسيقية أوسع، تُعنى بالتخطيط الإنمائي الاستراتيجي، وإطلاق المشاريع المشتركة بين البلديات، وتوزيع الموارد بطريقة عادلة. وبين هذين المستويين البلدي واللامركزي تقوم علاقة تكامل لا تداخل، وشراكة لا ازدواج، ضمن إطار مؤسسي واضح المعالم، يضمن الانسجام في العمل المحلي، ويمنع التنازع أو الازدواج في الصلاحيات. ولذلك فإن تعيين الحدود بين البلديات ومجالس الأقضية المفترضة، في نطاق اللامركزية الإدارية لا السياسية ، لا يعني الفصل أو الانفصال، بل بناء هرم تنموي متماسك، تتوزع فيه الأدوار وفق مبدأ التخصّص والتكامل، وتحت سقف وحدة الدولة وسلطتها التنفيذية والتشريعية والقضائية؛ وهو ما تضمّنته عدة مشاريع في هذا السبيل، كان آخرها المشروع الذي أنجزته اللجنة التي شكلت برئاسة الوزير السابق زياد بارود.
أما العلاقة مع الإدارة المركزية، فلا ينبغي أن تبقى علاقة عمودية قائمة على التبعية من جانب، والإملاء من جانب آخر، بل يجب أن تتحوّل إلى علاقة أفقية تقوم على الدعم، والإشراف الرشيد، وتوفير الموارد، لا احتكار القرار.
إن رفع الحصرية عن الإدارة المركزية ليس انتقاصًا من دورها، بل هو تعزيز لها من خلال تخفيف الأعباء عنها، وتمكين الإدارات المحلية من القيام بوظائفها على نحو أكثر فعالية واستجابة لحاجات الناس. ولذلك نحن مطالبون جميعًا بأن نرعى هذا التحوّل بروح المسؤولية، وبنيّة الإصلاح، وبثقة راسخة بأن مستقبل الدولة الحديثة يبدأ من سلطات محلية قوية، منتخبة، شفافة، ومرتبطة مباشرةً بمواطنيها.
تشكّل اللامركزية الإدارية الموسّعة إذاً، في مسار تطوير الإدارة المحلية وتعزيز المشاركة المواطنية، وعلى الرغم من كونها موضوعاً شائكاً وحسّاساً في النظام اللبناني، إحدى الركائز الجوهرية لإرساء نظام حكم أكثر عدالة وفعالية. وفي هذا السياق، يكتسب إقرار أيّ مشروع قانون في هذا السبيل أهمية استثنائية، لأنّه يرسي أسسًا واضحة وعملية لتوزيع الصلاحيات والمسؤوليات بين المستويات المركزية والمحلية.
إن التحدّيات التي تواجه المجالس البلدية كبيرة، وكذلك المجالس المحلية عند إنشائها، والنجاح في مواجهتها حالياً ومستقبلاً يرتكز على المقاربة التنموية الشاملة التي تقوم على التخطيط الاستراتيجي في هذا النطاق، من أجل توفير كل الأطر والمعطيات والمستلزمات التي تتيح للوحدات الإدارية المناطقية أن تكون منصات حيوية وفاعلة للخدمة، وفرصاً حقيقية لتنفيذ المشاريع الإنمائية على قاعدة المشاركة والمساءلة والمبادرة، وتحت سقف الإيمان العميق بأن إقرار اللامركزية الإدارية، كأحد مبادئ إصلاح النظام السياسي في لبنان، هو مدخل حقيقي للإنماء، لا مجرّد شعار سياسي يُرفع من حين إلى آخر، من دون تنفيذ فعلي.
(*) المدير العام السابق لوزارة الثقافة














