“الأخبار”: البيان المشترك يُعيد الإصطفاف: مَن مع ومَن ضد؟

عُدَّ الاتصال الهاتفي الذي اجراه الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون وولي العهد السعودي محمد بن سلمان السبت برئيس الحكومة نجيب ميقاتي، نافذة صغيرة فُتحت على قطيعة البلدين. ليست كافية، الا انها ضرورية. لا تدلّ حتماً على ان الكثير المهم سيحدث في ما بعد، لمجرد ان كانت ثمة مكالمة هاتفية.

ما لم يقله الاتصال الهاتفي، او يُفصح عنه ميقاتي بصفته المتلقي، افرط البيان المشترك الفرنسي – السعودي في الاعلان عنه، ودلّ مباشرة على لبّ المشكلة. عرّج على كل ما لم يكن على علاقة بأسباب القطيعة، المعروفة ظاهراً بأنها ناجمة عن مواقف أدلى بها وزير الاعلام السابق جورج قرداحي. اذا البيان المشترك يتناول كل ما يشير الى مجمل ازمة النظام اللبناني وموقع الدولة وهزالها، وانهيارها الوشيك. بذلك بَانَ البيان، والمقصود منه تطبيع العلاقات اللبنانية – السعودية بوساطة فرنسية، انه يرسم سقفاً لكل ما تعدّه المملكة شرطاً لعودتها الى لبنان، ووجّه من دون ان يسمّي اصابع الاتهام الى حزب الله.

لم يُشفع البيان المواقف المتصلبة التي تضمنها بأي ايحاءات باجراءات سعودية ايجابية، محتملة، تساعد في تطبيع علاقات البلدين، ما دامت التكهنات التي رافقت المكالمة الهاتفية أوحت بأنها اوقفت القطيعة: هل سيعود السفير السعودي الى بيروت او سيُستقبل السفير اللبناني على اراضيها، هل ستسمح بادخال البضائع اللبنانية اليها ومن خلالها الى دول مجلس التعاون الخليجي، ومن ثم السماح بمنح التأشيرات مجدداً.

اما ما يفترض ان يفعله لبنان، كشرط لاستعادة التطبيع، فيكمن في المشكلة الاكثر تعقيداً. وهي موقع حزب الله في المعادلة الداخلية، كما في تمدّد نشاطاته الى خارج الاراضي اللبنانية، كما في مقاربة المعضلات المستعصية الحل الى الآن، سواء بالنسبة الى القرار 1559 (سلاح الحزب) غير المطبق منذ صدوره قبل 17 عاماً، والقرار 1680 (ترسيم الحدود مع سوريا) غير المطبق منذ صدوره قبل 15 عاماً، والقرار 1701 المطبق جزئياً منذ صدوره قبل 15 عاماً. مع ان اللبنانيين انفسهم، مذ صدر كل من القرارات الثلاثة هذه، منقسمون على تفسيرها وليس على تطبيقها فحسب. الامر نفسه في المشكلة العالقة منذ اتفاق الدوحة عام 2008، حيال ما يتعلق بحصر السلاح في يد الدولة والشرعية.

هل يتحمّل حزب الله خسارة اضافية بعد الطيونة وعين الرمانة؟

امران مباشران في البيان عنيا المملكة: ما قالت انه اعمال ارهابية تنطلق من لبنان لزعزعة امن المنطقة واستقرارها، وهي اشارة مباشرة الى حرب اليمن، وتهريب المخدرات المتهم حزب الله بالضلوع فيه. كلا البندين الاخيرين، شأن القرارات الدولية الثلاثة، يتقاطع فيهما الداخل اللبناني بالخارج الاقليمي. لا يملك لبنان ان يقدم اياً منها، لا الى البيان الفرنسي – السعودي، ولا الى المجتمع الدولي حتى.

في قراءة محلية لحصيلة ما تضمنه البيان، بموافقة فرنسية للمرة الاولى بمثل هذا الوضوح والتوجّه بعدما تجنبت باريس مراراً الخوض في تفاصيل كهذه، انه مرشح لان يعيد فتح سجال داخلي بدا انه انطوى نهائياً مذ تفكك فريقا 8 و14 آذار، وكانت هذه البنود عناصر الاشتباك بينهما في السلطة كما في الشارع. يعيد البيان المشترك الاصطفاف السابق بين خصوم الحزب (كوليد جنبلاط وحزب القوات اللبنانية وحزب الكتائب والبيئة السنّية المناوئة له سواء الملتحقة بالرئيس سعد الحريري او المنفصلة عنه) وحلفائه. كلاهما يستقوي به على الآخر، سواء بالتمسك بالبيان المشترك او برفضه. عند حزب الله، والثنائي الشيعي خصوصاً، للمشكلة مقاربة اخرى تبعاً لمعطيات ثلاثة:

اولها، ان البيان يرمي الى ارباك هذا الفريق في الداخل اللبناني، ويحمّله خسارة جديدة، هو الذي لم يخرج بعد من تداعيات خسارتين متلاحقتين في يوم واحد: احداث الطيونة المصوَّبة على المحقق العدلي في انفجار مرفأ بيروت طارق البيطار، واحداث عين الرمانة وسقوط متظاهرين ينتمون الى حركة امل. في كلتا الخسارتين لم يسع الحزب، حيال صورته وكذلك قاعدته، تعويضهما: لا المحقق العدلي أُخرج من ملف التحقيق، ولا ما يطالب به الثنائي الشيعي وهو الادانة القضائية لحزب القوات اللبنانية على انه افتعل سقوط الضحايا.

ثانيها، اعتقاد الحزب بأن البيان المشترك اخرج الفرنسيين من موقع الوساطة الايجابية والبناءة التي حاول ماكرون الاضطلاع بها في لبنان وبإزائه، اكثر من مرة: اولاها بالمساعدة على الافراج عن الرئيس سعد الحريري في الرياض في تشرين الثاني 2017. وثانيتها عندما تطوّع لحمل وزر مساعدة لبنان على تجاوز انهياره الاقتصادي والنقدي بدءاً بمؤتمر سيدر عام 2018. وثالثتها لملمة آثار انفجار المرفأ والدور الطويل الذي اضطلع به ولا يزال حيال تأليف حكومة اصلاحات. فبدا محايداً بين الافرقاء اللبنانيين، ومثابراً على التواصل والحوار مع الحزب. في البيان المشترك اخيراً، سلّم بكل ما تطالب به المملكة، ووقف الى جانبها في كل ما عنتها اشاراتها السلبية الى حزب الله.

ثالثها، ان بعض مَن تلقف بيان جدّة، يحاول تصويره كما لو ان السقف السياسي الذي يرسمه لاستعادة العلاقات اللبنانية – السعودية، هو السقف المناسب لارساء تسوية داخلية جديدة تُبنى على المقتضيات التي اوردها. تالياً، محاولة فرض خيارات جديدة على حزب الله، من شأنها ان تجعل من رفضه المتوقع والحتمي لها، انخراطه في مواجهة جديدة مع الافرقاء الآخرين المناوئين له، وهو في السنة الاخيرة في ولاية حليفه رئيس الجمهورية ميشال عون، وعلى ابواب انتخابات نيابية عامة يحتاج فيها الى حلفاء مقدار حاجة هؤلاء اليه، من اجل الابقاء على الاكثرية الحاكمة حالياً.