
| نورما أبو زيد |
منذ أن دوّت أولى طلقات الحرب على لبنان، دخل المسيحيون في زمن انتظار غودو. بدايةً، أطلّ بشير الجميل، فهتفوا باسمه وقالوا: ها قد جاء غودو، لكن الرصاصة سبقت الحلم، وقُتل خلاصهم على عتبة القصر. ثمّ أتى ميشال عون، فظنّوه غودو المنتظر، ومشوا خلفه إلى المنفى، ثمّ إلى جهنم.
لم يكن أفول الحرب، خشبة خلاص المسيحيين، بل بداية غرقٍ من نوعٍ آخر. سكتت المدافع، وبدأت حرب دستورية باردة أشدّ حرقًا من نار الحرب العسكرية. دخلوا “الطائف” مرغمين، وخرجوا منه راكعين. دخل رئيس الجمهورية إلى طاحونة “الطائف” بصلاحيات فلكية، وخرج منها لا يملك صفارة. حاكم لا يحكم، وزعيمان: واحد في السجن، وآخر في المنفى، ورئيس جمهورية بلا طعم، ولا لون.
واجه المسيحيون واقعهم الجديد حفاة، وأمام كثرة الخيبات، لم يبقَ أمامهم سوى أن يعدّلوا في جيناتهم السياسية، وأن يعيدوا تشكيل صورة غودو المنتظر. تحوّل الخلاص تدريجيًا من بزة عسكرية إلى ثوب بطريركي، وغودو الذي كان يومًا جنرالًا على دبابة، ارتدى بعد “الطائف” بزة كنسية. تشبثوا بصخرة بكركي كأنّها آخر اليابسة، وهناك رفعوا صلواتهم، وعلقوا خيباتهم، فصارت قبلتهم السياسية، وحائط مبكاهم. حتى صار السؤال مشروعًا: عن أيّ مركز قرار ماروني نتحدّث؟ عن رئاسة الجمهورية أم عن بكركي؟
لم يكن أمرًا طارئًا على الحياة السياسية اللبنانية، أن يتقدّم بطريرك ماروني الصورة السياسية. فكلّ البطاركة الذين تناوبوا على كرسي أنطاكية وسائر المشرق، كانوا على تماس مباشر مع الحياة السياسية اللبنانية، ولم يكونوا محايدين في الصراعات اللبنانية ـ اللبنانية أو اللبنانية ـ الخارجية. وفي كلّ مرة كان يخفت فيها نجم الزعامات السياسية، كان يسطع نجم بكركي. من هنا تمسّك الموارنة تاريخيًا بمقولة “بطاركة من ذهب يحملون عصا من خشب”، للدلالة على الأدوار السياسية التي لعبتها الكنيسة منذ نشوء الكيان.
الطارئ الوحيد، كان تصدّر البطريرك الماروني المشهد السياسي بلا سياسيين حقيقيين. وعلى وقع هذا الواقع غير المسبوق، ذهب مار نصر الله بطرس صفير إلى لعب أدوار تتجاوز دور الرقيب الذي لعبه أسلافه. كانت بكركي قبله تلعب أدوارًا تضمن استقرار الطائفة، وباتت بكركي معه تلعب أدوارًا تضمن بقاء الطائفة. هكذا انتقلت بكركي من موقع الحكم إلى موقع الحامي.
عُرف البطريرك صفير بالثبات الصلب على مواقفه إلى حدّ العناد. صفة صامتة ولكن ناطقة، أزعجت كثيرين، إنما لم تغيّر كثيرًا في اتجاه الريح. كان النزيف المسيحي مؤلمًا على مستوى لبنان، وحين ضاق به الهامش الداخلي، استدار نحو الثقل الرمزي والتاريخي الأكبر: روما، فكانت زيارة البابا يوحنا بولس الثاني إلى لبنان.
مرّة جديدة، انتظر المسيحيون غودو كما ينتظر العطشان غيمة. ظنوا أنّ الكنيسة الأم، التي ترى رعيتها من عليائها، قادرة بقوة سلطتها الرمزية والتاريخية على تعويمهم سياسيًا، وعلى تثبيت أقدامهم في هذا الشرق المتنكّر لأقلياته. زار يوحنا بولس الثاني لبنان، وغادر يوحنا بولس الثاني لبنان، واستمرّت الأرض بالانكماش تحت أقدام مسيحيي البلاد. أمّا مسيحيو سائر المشرق، فقد لاحقتهم لعنة الجغرافيا حتى آخر مسيحي، وانشقت الأرض وابتلعتهم جماعات، جماعات.
كان يُفترض بالسينودوس من أجل لبنان، أن يكون خارطة طريق لمسيحيي لبنان. سلّمت روما الخارطة، دون أن تشق لها طرقات سياسية، فتقلّصت أمام المسيحيين دروب الداخل، وتوسّعت أمامهم طريق المطار، مُعلنة انهيار الحضور المسيحي.
في 30 تشرين الثاني المقبل، يصل البابا لاوون الرابع عشر إلى لبنان. الشرق بلا مسيحيين، ومسيحيو لبنان هذه المرّة ليسوا في انتظار غودو. يشعر هؤلاء أنهم آخر الهنود الحمر، وقد تخلّوا بصمت عن صراع البقاء. الحرب التي شنت ضدّهم أنهكتهم. والحرب التي خاضوها ضدّ بعضهم استنزفتهم. “الطائف” سرق ريادتهم. وتهجير مسيحيي سوريا والعراق حاصرهم. وبحر اللاجئين الفلسطينيين والنازحين السوريين غمرهم بلا شطآن.
فهل يُفاجأ المسيحيون هذه المرّة بغودو حقيقي لم ينتظروه؟ أم يأتيهم الحبر الأعظم بباقات من الصلوات والتمنيات مع تأكيد جديد على النموذج اللبناني “الفريد”؟














