الجمعة, ديسمبر 5, 2025
spot_img
spot_img
spot_img
الرئيسيةسياسةالإدارة العامة في لبنان وآفاق الإنماء والتحديث

الإدارة العامة في لبنان وآفاق الإنماء والتحديث

spot_img
spot_img
spot_img
spot_img

 | فيصل طالب | (*)

تُعدّ الإدارة العامة العمود الفقري للدولة، والركيزة الأساسية لعملها، وأداة التنفيذ لسياساتها العامة، وتقديم الخدمات للمواطنين، والوسيلة الفعّالة لتحقيق استقرارها الاجتماعي ونهوضها الاقتصادي. وإزاء الصعوبات القائمة التي يعيشها لبنان على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والمؤسسية، وعلى الرغم من أنّ استشراف إدارة عامة من منظور الإنماء والتحديث تعتريه معوّقات متعددة الأوجه، أهمّها ما يتصل بالقدرات المالية والجوانب الهيكلية والتنظيمية، فإن النظر في هذه المسألة لا يتمّ إِلَّا من خلال زاويتين اثنتين: وعي التحديات الجسيمة التي تعترض طريق الإصلاح، وتبصّر الفرص والمسارات الممكنة للتطوير، وذلك  بالاعتماد على منهج البحث الوصفي التحليلي المستند إلى مراجعة الواقع الإداري اللبناني، وتشخيص معوّقاته البنيوية والتنظيمية والثقافية، واقتراح سبل تطويره، في ضوء مبادئ الحوكمة والإدارة الحديثة.

أولاً: التحديات والعوائق

تمثّل عملية الإصلاح الإداري في لبنان مطلباً حيوياً وملحّاً لتحقيق التحوّل المنشود في البنية الإدارية للدولة.غير أن هذه العملية تواجه مجموعة من التحديات المركبة والمتداخلة التي تعيق حركتها في اتجاه مواكبة حاجات المجتمع، والاستجابة لتطلّعاته، من خلال إدارة فعّالة وشفّافة تسهم في تحقيق التنمية المستدامة. ومن بين ذلك:

ا- العوائق السياسية: لا يمكن فهم تعثّر الإصلاح الإداري في لبنان تاريخياً بمعزل عن طبيعة النظام السياسي الطائفي القائم، وما يتصل به من محاصصات وتوزيع للمناصب الإدارية العليا وسائر الوظائف العامة على أساس طائفي، وليس دائماً وفقاً لمتطلبات الجدارة والكفاءة؛ فضلاً عن أنّ التدخّلات السياسية والطائفية في الإدارة تصعّب اتخاذ قرارات إصلاحية جذرية تقوم على مبادئ الحياد والشفافية والنزاهة؛ مع الإشارة إلى أنه كثيراً ما كانت تُرفع شعارات الإصلاح الإداري، من دون التزام حقيقي بالتنفيذ أو متابعة النتائج؛ علماً أن التجارب التي خيضت سابقاً في هذا النطاق كانت ذات طبيعة ظرفية أو موسمية، ولم تكن غالباً في مسار التنمية الإدارية المستدامة.

٢- القوانين المتقادمة: تنظم عمل الإدارة اللبنانية قوانين مضى على اعتمادها زمن طويل، من غير أن تساير ركب التطوّر، وتتكييّف مع المتطلبات المضطردة للإدارة ومقتضيات  التقنيات الحديثة؛ الأمر الذي يؤدّي إلى جمود إداري يعيق تحديث الإجراءات، ولا يهيّىء الظروف المؤاتية لاجتراح حلول إدارية وتكنولوجية مبتكرة، ولا يتيح التكيّف السريع مع الأزمات الطارئة، ولا يحقّق المواءمة مع المعايير الدولية التي تسهّل سبل التعاون مع الآخرين، وتيسّر إمكانات الدعم والتمويل.

٣- غياب التخطيط الاستراتيجي: أحد أهمّ التحدّيات الأساسية، وهو خلل منهجي يقوم غالباً على العمل بردود الأفعال، والتعامل مع المشكلات بعد وقوعها (أزمة النفايات، الكهرباء، …)، بدلاً من استباقها بخطط بنائية لا استدراكية استلحاقية؛ فضلاً عن غياب برامج الدولة الاستراتيجية والممتدة لعدة سنوات،    بصرف النظرعن تغيّر الحكومات، والاكتفاء ببرامج الحكومة القابلة للتغيير أو التعديل أو الإلغاء مع كل تبديل وزاري.

  ٤- العوائق الهيكلية والتنظيمية والتقنية: البيروقراطية والروتين الإداري، والتداخل وعدم التكامل أو التنسيق بين الوزارات، او بينها وبين البلديات ( تداخل الصلاحيات بين وزارة الدولة لشؤون التنمية الإدارية ومجلس الخدمة المدنية، وبين وزارة البيئة ووزارة الطاقة والمياه في بعض الملفّات،…).، وغياب توصيف دقيق للوظائف في كل وحدة إدارية، وتضخّم الجهاز البشري في مكان، وتضاؤله في مكان آخر؛ فضلاً عن المركزية الشديدة التي تؤدّي إلى التأخّر في اتخاذ القرارات، والحدّ من مرونة الإدارات المحلية وقدرتها على الاستجابة لحاجات المواطنين في المناطق. وبالإضافة إلى ذلك، فإن معظم الإدارات ما زالت تعتمد على الأرشيف الورقي والعمل اليدوي، مع ضعف الاعتماد على التكنولوجيا والتحوّل الرقمي في عمليات التسيير الإداري، مما يزيد من هدر الوقت والجهد ودقّة المتابعة  وصعوبة أرشفة البيانات، ويؤدّي إلى البطء والتعقيد في سير المعاملات وإتمامها.

 ٥- معوّقات ثقافية: ضعف ثقافة المواطنة والمنفعة العامة والانتماء الوظيفي والعمل التشاركي، ومقاومة التغيير، والتمسك بالأساليب الإدارية التقليدية، وخوف البعض من خسارة امتيازاتهم.؛ الأمر الذي يضعف قدرة الجهاز الإداري على استيعاب قيم الحوكمة القائمة على الشفافية والمساءلة والفعالية.

٦- معوّقات تنمية الموارد البشرية: غياب الإطار المرجعي للوظائف، مع ما ينطوي عليه من توصيف وتصنيف وظيفي، وما يتصل به من برامج لتدريب الموظفين على اكتساب المهارات الإدارية والقيادية الموصوفة وتطويرها، والتي تقوم على نظام تقييم دوري لتحديد الاحتياجات التدريبية في هذا السبيل، مع تعيين مسارات وظيفية واضحة للموظفين تحدّد فرص النمو والتطوّر داخل الإدارة؛ مع الإشارة إلى أنّ مجلس الخدمة المدنية يعمل منذ أكثر من عام على إنجازمشروع مهم جداً في هذا النطاق، من شأنه أن يحدث نقلة نوعية في مسار الوظيفة العامة. يُضاف إلى ذلك ضعف الحوافز المعنوية والمادية، وعدم مواكبة التقنيات الحديثة ومتطلبات الإدارة الرقمية. كلّ ذلك  يؤدّي إلى إحداث فجوات في الكفايات، وتراجع الإنتاجية، وعدم استقطاب الكفاءات، ما يضعف قدرة الإدارة على تطويرالطاقات الإدارية وتجديدها، وإعداد جيل قيادي جديد. ومن الضرورة بمكان في هذا السياق، الإشارة إلى أنّ الأزمة الاقتصادية التي بدأت في العام ٢٠١٩، وأدّت إلى انهيار قيمة الرواتب، قد دفعت بالكثير من الكفاءات العاملة في الإدارة العامة إلى الهجرة، أو البحث عن عمل خارج القطاع العام. بينما راح الآخرون يعانون تداعيات الضائقة المالية الخانقة، ولمّا يزالوا، رغم بعض التحسين اليسير الذي طرأ على المداخيل، والذي لم يغنِ أو يسمن من جوع؛ فضلاً عن أن كل أزمة مالية تشكّل، في العادة، عائقاً أمام مشاريع التطوير والتحديث، وتجعل الإصلاح الإداري ثانوياً إزاء الأولويات الآنية الضاغطة.

إنّ عدم التصدّي لمثل هذه التحدّيات ليس إخفاقاً سياسياً وإدارياً فحسب، بل هو مسار يؤدّي حتماً إلى تباطؤ النموّ الاقتصادي، وتراجع الاستثمارات والمشاريع الاقتصادية والاجتماعية، وبخاصة ما يتصل منها ببرامج المؤسسات الدولية في مجال التنمية المستدامة، التي تشترط إصلاحات هيكلية لتقديم الدعم والتمويل الخارجي؛ فضلاً عن استمرارالهدر في الموارد المالية والبشرية، وتراجع جودة الخدمات، وتآكل البنية التحتية وهجرة الكفاءات، والتأخّرعن اللحاق بركب التحديث المتناغم مع تطوّر حاجات المجتمع، وإضعاف ثقة الداخل والخارج بالدولة…

ثانياً: آفاق التطوير ومساراته

يكتسب التطوير الإداري في لبنان أهمية استثنائية في ظلّ الظروف الاستثنائية، ويشكل ركيزة أساسية لمواجهة الأزمات، وتحقيق التعافي المؤسسي، في سياق حوكمة رشيدة، وخدمة عامة تتسم بالتكيّف السريع مع التحوّلات المتسارعة في بيئة العمل، والمواكبة الدائمة لمتطلبات النمو الإداري، من خلال اعتماد أنظمة إدارية مرنة وفعالة قادرة على تلبية حاجات المواطنين، وتعزيز ثقتهم بالإدارة العامة. ويمكن أن تتجلّى آفاق التطوير في هذا النطاق عبر مسارات متعدّدة، من بينها:

١- الإصلاح الرقمي والذكاء الاصطناعي:

– الرقمنة الكاملة للخدمات: إنجاز المعاملات (المراسلات، طلبات الرخص، الوثائق الشخصية،…)، عبر منصات إلكترونية تقلّص الاتصال المباشر بالموظف، وتسرّع العمليات الإدارية.

– إنشاء قاعدة بيانات موحدة: ربط كافة الإدارات والمؤسسات الحكومية بشبكة واحدة تسهّل تبادل المعلومات، وتتفادى التعقيدات والازدواجية.

– تعميم الأرشفة الرقمية لتسهيل الوصول إلى المعلومات، واعتماد التوقيع الإلكتروني، وضمان حفظ الوثائق، وتسريع الإجراءات..

– الاستفادة من الذكاء الاصطناعي في تحليل البيانات، واستخلاص المؤشّرات والنتائج، ودعم الإدارة الترقبية والتفاعلية في مجالات تقييم الأداء، وتحديد الحاجات، وإدارة الأزمات.

٢- تطوير الموارد البشرية:

– التأكيد على نظام الاستحقاق والجدارة والكفاءة في عمليات التوظيف، بعيداً من المحاصصة السياسية والطائفية.

– اعتماد برامج التدريب المستمر: إلزامية تدريب الموظفين على المهارات الإدارية الحديثة  واستخدام التكنولوجيا وإدارة النزاهة، على قاعدة ربط التدريب بالاحتياجات الفعلية للوظائف، ومتطلبات الإدارة الرقمية والحوكمة الرشيدة.

– إعادة هيكلة نظام الرواتب والأجور والحوافز: ربط الرواتب بالإطار المرجعي للوظائف (التوصيف والتصنيف الوظيفي)، والترقية والترفيع والمكافآت المادية والمعنوية بالأداء والإنتاجية. وبانتظار تحقّق ذلك لا بدّ من أن يصار إلى النظر في إقرار زيادات طارئة ومستعجلة على رواتب الموظفين العاملين والمتقاعدين، في ضوء تضاؤلها إلى الحدود التي لم تُعدّ تفي بمتطلبات العيش الكريم، ولو بحدّه الأدنى.

– الاستثمار في برامج التكوين القيادي لتحضير جيل قادم من القادة الإداريين.

– الانتقال من نظام تقييم الأداء السنوي إلى نظام تقييم دوري يتيح التغذية الراجعة المستمرة شهرياً أو فصلياً.

٣- الإصلاح القانوني والمؤسسي:

– إعادة هيكلة الإدارات العامة: دمج أو إلغاء وزارات أوإدارات أووظائف.

– مراجعة شاملة للقوانين الإدارية وفاقاً للحاجات المتنامية وتطوّر العلم الإداري.

– تعزيز الشفافية والمساءلة من خلال:

  • تفعيل قانون الحق في الوصول إلى المعلومات.

– إلزام جميع الإدارات بنشر موازناتها ونفقاتها وعقودها على منصات مفتوحة.

– تعزيز دور أجهزة الرقابة (الخدمة المدنية، التفتيش المركزي، ديوان المحاسبة، هيئة الشراء العام)، وتوفير الأطر المناسبة لفعالية قراراتها.

– إقرار قانون اللامركزية الإدارية الموسّعة الذي يمنح المحافظات والبلديات صلاحيات أوسع في التخطيط والتنفيذ؛ فضلاً عن إمكانية تفويض صلاحيات للمحافظات والإدارات المحليّة،  ممّا يخفف العبء عن الإدارة المركزية، ويجعل الخدمة أقرب إلى المواطن.

٤- إدارة التغيير الثقافي:

ربما يكون هذا الجزء من خطة التطويرالإداري هو الأصعب. وهو يقوم على:

– تحليل معطيات الثقافة الإدارية السائدة : الروتين الإداري، النظام الورقي، مقاومة الرقمنة،…

– تنظيم ورش عمل تفاعلية للموظفين للتعريف بمبادئ الإدارة الحديثة والسلوكيات المرغوبة.

– توفير برامج تدريبية لتزويد الموظفين بمهارات استخدام الأدوات الرقمية والعمل الجماعي…

-إشراك الموظفين في صياغة حلول عملية لتجاوز المقاومة الداخلية.

– تصميم برامج تحفيزية تربط الالتزام بالقيم الجديدة للسلوكيات المرغوبة بمكافآت معنوية ومادية.

– متابعة مؤشّرات التغيير الثقافي دورياً عبر آليات تقييم وتغذية راجعة مستمرة.

 ٥- تعزيز الشراكات:  

– استقطاب الدعم الفني والمالي من منظّمات ومؤسسات عربية ودولية، لتنفيذ مشاريع إصلاحية محدّدة وواضحة (مثل تمويل مشاريع الرقمنة، برامج تدريب الموظفين، …).

– الاستعانة بالخبرات الداخلية والخارجية: الاستفادة من تجارب ناجحة في مجال التطوير الإداري في القطاع الخاص اللبناني، وفي دول عربية أو أجنبية، وتكييفها مع خصوصيات الإدارة العامة اللبنانية.

تشكّل هذه المسارات منظومة مترابطة للتطوير الإداري المنشود في لبنان. فالتحوّل الرقمي يوفّر الأدوات، وتطوير الموارد البشرية يثري الإدارة بالكفاءات، والإصلاح القانوني يضع الأطر المؤسّسية الناظمة للعمل الإداري، والتحوّل الثقافي يستهدف تغيير العقليات والسلوكيات الإدارية السائدةء وتعزيز الشراكات يضمن الاستفادة من برامج الدعم الخارجي، والاغتناء المتواصل من تجارب الآخرين.

 الخلاصة

لا شك أن ثمّة تحدّيات كبرى ومعوّقات مزمنة تعترض سبيل التطوير الإداري، وهي تتصل بطبيعة النظام اللبناني، ومدى توافر المعطيات الداعمة والدافعة لخوض غمار الإنماء الإداري بصورة جدية وفاعلة، على قاعدة صياغة رؤية استراتيجية في هذا النطاق، تتكامل مع عمليات التنفيذ الفعلي لمندرجاتها، والذي قد يأتي على مراحل متتالية، بما يتيح إحراز تقدّم تدريجي  انطلاقاً من مشاريع رائدة في إدارات معيّنة، لتكوين نماذج يحتذى بها في باقي القطاعات؛ وذلك عبر مسارات متنوعة وطموحة تستهدف بناء إدارة كفوءة ومستدامة، قادرة على مواجهة تحدّيات الحاضر واستشراف المستقبل.

باختصار، الآفاق ليست مسدودة، وفكرة التطوير لا تحتمل التأجيل أو التسويف، لكنها مرهونة بتغيير جذري في الرؤية، ووجود قناعة راسخة بأنّ كلفة عدم الإصلاح أغلى من كلفة الإصلاح نفسه.

 (*) المدير العام السابق لوزارة الثقافة

للانضمام إلى مجموعة “الجريدة” إضغط على الرابط

https://chat.whatsapp.com/KcTcdtSlZ5a0SaZPTZsoiV?mode=ems_cop

spot_img
spot_img
spot_img

شريط الأحداث

مقالات ذات صلة
spot_img
spot_img