/ علاء حسن /
لا يختلف اثنان على أن الأمور تغيرت كلياً منذ أعلنت روسيا الحرب على أوكرانيا، أربك العالم بأكمله، فهناك نظام عالمي قائم منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية لم يتعرض لخطر الانهيار، على الرغم من كل ما حصل في تلك الحقبة، مثلما يحدث اليوم،
صحيح أنه حصلت محطات كبيرة، مثل الثورة الإسلامية في إيران، وانهيار الاتحاد السوفياتي، وحتى عقيدة الحرب الاستباقية التي أطلقها بوش الإبن في بداية هذه الألفية، لكن جميع هذه الأحداث لم تكن بعيدة عن الاحتواء الأميركي، فضلاً عن أن البعض منها صب مباشرة في مصلحة الولايات المتحدة.
لكننا اليوم أمام مخاض حقيقي لنظام عالمي مختلف عما سبق. وبغض النظر عن أن العالم سيحمل تبعات ذلك لفترة قد تمتد عقوداً من الزمن، إلا أن الثابت هو أن التغيير آت ولم يعد هناك مجال للوقوف أمام عاصفة التغيير التي ترخي بظلالها على العالم كله. والثابت الثاني هو أن أميركا تفقد فيه السيطرة على احتواء الأحداث، لكونها لم تعد اللاعب المؤثر الوحيد في هذا الكوكب.
لكن في المقابل، لن تقف الولايات المتحدة بالتأكيد مكتوفة الأيدي وهي تشاهد انهيار النظام الذي تتربع على عرشه، من دون أن تحرك ساكناً، لذا بدأت بالتضحية بأوكرانيا عبر مدها بالسلاح والخبراء لإطالة أمد الحرب، ولمنع انتشارها مرحلياً عن تلك الرقعة الجغرافية.
ثم جاء التحذير الأميركي للصين من القيام بأي تصرف تجاه تايوان، التي تعتبرها الصين امتداداً جغرافياً طبيعياً لها، ويجب تصحيح المسار عبر إعادة السيطرة عليها. ووجهت ما يشبه التهديد للهند منعاً لأي طموح قد يخطر ببال شبه القارة هذه.
أما بخصوص أوروبا، فإن الولايات المتحدة وجدت ضالتها أخيراً بإعادة القارة العجوز إلى السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية، عندما فرضت “مشروع مارشال” للسيطرة عليها، وذلك بعدما رأت منها ما يخيفها على مستوى رغبة الاوروبيين في الحصول على مستوى أعلى من الاستقلال عن السياسات الأميركية في السنوات الماضية.
وفي الملف النووي الإيراني، وبحسب آخر الأخبار، فإن الرئيس بايدن اتخذ قراره النهائي بعدم رفع اسم “الحرس الثوري” عن لائحة العقوبات بوصفه “منظمة إرهابية”، ما يعني توقف المفاوضات عن بلوغ مراحل متقدمة، أقله في المرحلة المقبلة، في محاولة منها لعدم منح الاوروبيين ورقة قوة من خلال إنجاحهم للمفاوضات النووية ذات الطابع الدولي، ولإبقاء الحصار الاقتصادي على إيران، وعدم السماح لها بالتنفس باكراً في ظل تبدل موازين القوى العالمية.
كل ذلك هو جزء من الإجراءات الأميركية لخلط الأوراق أمام اللاعبين الدوليين الآخرين، ومنعهم من المضي في هذا المخاض الصعب بقوة تسمح بحجز مقاعد لهم في الصفوف الأمامية في العالم الجديد، وذلك من دون إرادة الولايات المتحدة بالطبع.
أما في لبنان، وفي ذات السياق، برز تصريحان مهمان خلال الأسبوعين الماضيين:
الأول، من مساعد وزير الخارجية السابق ديفيد شينكر، الذي تحدث عن دور الولايات المتحدة في الأحداث السياسية والاقتصادية التي حصلت خلال الأعوام الماضية، وكيفية إدارتها للواقع النقدي والإقتصادي بهدف تأمين مصالحها. وفي معرض حديثه عن منظمات المجتمع المدني، أبدى شينكر امتعاضه من أداء هذه المجموعات بما يخالف طموح الأميركيين.
أما التصريح الثاني، فقد جاء من قبل السيناتور الجمهوري ريتشارد بلاك الذي تحدث عن الحرب السورية وما تلتها من أحداث، وصولاً إلى انفجار مرفأ بيروت الذي ألمح إلى دور بلاده في حصول هذا التفجير!
فهل صدفة أن يخرج الأميركيون بهكذا تصريحات مباشرة؟
من الواضح أن الإجابة هي في سياق خلط الأوراق التي تعتمدها الولايات المتحدة في مختلف نقاط العالم، وبذلك بدأت تحدد الخطوط الحمراء لخصومها في التعامل مع الملفات التي باتت تتعاطى فيها بشكل مباشر.
وجدت الولايات المتحدة أن زمن “الحرب بالوكالة” لم تعد تفي بالغرض في أكثر من منطقة نزاع، ولذلك أرسلت رسائل واضحة عبر ما تم تسريبه، أن أي سياسات يجب أن تأخذ بالحسبان وقوف أميركا مباشرة خلف ما يحدث، وبالتالي عدم المساس بالوكلاء من جهة، وعدم جدوى ذلك من جهة أخرى. وما تهديدها المباشر بالتدخل العسكري في مسألة تايوان، سوى تعبير عن هذه السياسة الجديدة التي ستظهر ملامحها خلال الفترة القصيرة المقبلة.
ولما أصبحنا على أعتاب نظام مرتقب للعالم، في مقابل نظام القطبين قبل انهيار الاتحاد السوفياتي، والذي مهد للنظام الآحادي الذي تربعت فيه أميركا على عرش العالم، فإننا في مرحلة مخاض معقد وصعب، تسعى الدول فيه للتواجد على مستوى القوتين الصلبة والناعمة، لتتمكّن من توفير مصالحها والابتعاد عن الهامش، وستسعى الدول إلى رمي أوراقها، على غرار الولايات المتحدة، مما ينذر بفترة انتقالية قد تكون ساخنة في أكثر من منطقة في العالم.
ويبدو أن إيران والسعودية قد التقطتا هذه الإشارة اليوم، ما دفعهما إلى التقارب ووضع المصالح المشتركة نصب أعينهم، وكذلك دول أخرى بدأت بالسعي نحو نزع فتيل الصراعات في ما بينها خوفاً مما هو قادم، وتمهيداً للمستقبل الذي قد تتبدل فيه المصالح وموازين القوى.
وبالعودة إلى لبنان ليس من الواضح ما إذا تنبه المسؤولون إلى ما يجري في العالم، أو لعلهم يعلمون ولكن ليس بيدهم حيلة. لكن ما حصل من تصريحات خلال الأيام التي تلت الانتخابات، من معظم الفرقاء، لا يبشر بمستوىً عالٍ من المسؤولية، ولا الترفع عن الحسابات الضيقة لصالح المصالح العليا، وهو ما سيضع لبنان أمام فوهة البركان ما لم يتم تداركه سريعاً، وعندها لن تنفع عدد المقاعد النيابية، ولا من يتولى الرئاسات… لأن الجميع سيكون أمام شظايا التغيير القادم، والثمن سيوزع على الجميع من دون استثناء.