
| سعيد محمد |
في أجواء مشحونة بالتوتر الجيوسياسي، اختتم قادة الاتحاد الأوروبي والمجموعة السياسية الأوروبية (الأوسع) قمماً لهم في العاصمة الدنماركية كوبنهاغن، كان من المفترض – أقلّه وفق البيانات الختامية والصور التذكارية للقادة – أن تكون استعراضاً للوحدة بالالتزام المشترك بدعم أوكرانيا، وشدّ العزم في مواجهة روسيا. إلا أن المداولات المغلقة كشفت عن خلافات عملية عميقة أدّت إلى تأجيل قرارات رئيسية في ملفات حيوية، مظهرةً أن الطريق نحو استراتيجية أوروبية موحّدة لا يزال طويلاً ومحفوفاً بالتحديات الداخلية والانقسامات بين البرجوازيات الوطنية الحاكمة، لتبدو مداولات اليومين الماضيين أقرب إلى منتدى للمصارحة، منها إلى محطة لاتخاذ القرارات الحاسمة.
ولعل الحاضر الأبرز في القمة كانت أوكرانيا التي مثّلها رئيسها فولوديمير زيلينسكي، حيث استغلّ المناسبة لحث القادة الأوروبيين على تسريع وتيرة الدعم والمضي قدماً في محادثات انضمام بلاده إلى الاتحاد الأوروبي. وفي اجتماعاته الثنائية مع قادة الدنمارك وألمانيا والنرويج، ركّز زيلينسكي على الاحتياجات العاجلة، من تعزيز الدفاع الجوي إلى تمويل إنتاج الطائرات من دون طيار محلياً.
لكن عندما تعلّق الأمر بترجمة هذا الدعم المعنوي إلى إجراءات مالية ملموسة ومبتكرة، ظهرت الانقسامات جليّة بين الأفرقاء الأوروبيين، في حين تمثّل المقترح الأكثر طموحاً على الطاولة في خطة المفوّضية الأوروبية لإنشاء قرض ضخم بقيمة 140 مليار يورو لأوكرانيا، لا يُموَّل من جيوب دافعي الضرائب الأوروبيين، بل من أرباح الأصول السيادية الروسية المجمّدة في أوروبا منذ بدء الحرب. ودافعت رئيسة المفوّضية، أورسولا فون دير لاين، بشراسة عن الخطة، مؤكّدة أن “روسيا يجب أن تُحاسَب”، وأن هذه الآلية لا تعني “مصادرة الأصول نفسها”، بل استخدام السيولة النقدية الناتجة من استحقاقاتها كضمان للقرض. وأضافت أن “المخاطر يجب أن توزّع على أكتاف أوسع”، في محاولة لطمأنة الدول الأعضاء المتشكّكة.
إلا أن ذلك الطرح لم يكن مقنعاً للجميع؛ إذ قادت بلجيكا، وبدرجة ثانية لوكسمبورغ، جبهة معارضة له، ليس انطلاقاً من موقف مبدئي، بل عمليّ وقانونيّ. وحذّر رئيس الوزراء البلجيكي، بارت دي ويفر، من أن بلاده – التي تستضيف مؤسسة “يوروكلير” المالية التي تحتفظ بالجزء الأكبر من هذه الأصول – ستكون في خط المواجهة المباشر لأي إجراءات قانونية انتقامية من موسكو. ويبدو أن الخوف من سابقة قانونية قد تزعزع ثقة المستثمرين الدوليين في النظام المالي الأوروبي، وتفتح الباب أمام مطالبات قضائية لا نهاية لها، كان في ذهن قادة بعض الدول الأخرى. وفي ظلّ هذا التردد، لم يكن أمام رئيس المجلس الأوروبي، أنطونيو كوستا، سوى إعلان تأجيل اتخاذ قرار، قائلاً إن القمة المقبلة قد تكون موعد حسم تلك القضية الشائكة.
على أن الخلافات حول قرصنة الأصول الروسية لم تكن الوحيدة؛ إذ استحوذ نقاش تعزيز “الأمن الأوروبي” على أربع ساعات كاملة، أي ضعف الوقت المقرّر له، ما عكس الأهمية القصوى للملف وحجم التباين في وجهات النظر حوله. وافتتحت رئيسة الوزراء الدنماركية، ميتي فريدريكسن، النقاش بنبرة متشائمة، قائلة للصحافيين: “أعتقد أننا في أصعب وأخطر وضع منذ نهاية الحرب العالمية الثانية”، في إشارة منها إلى التهديد الذي تمثّله روسيا.
وتمحور النقاش اللاحق حول مقترح تأسيس “جدار الطائرات المُسيّرة” الذي قدّمته المفوّضية الأوروبية كحل تكنولوجي لمواجهة التهديدات المستجدّة على خلفية حوادث أمنية مقلقة، بما في ذلك إغلاق مطارات دنماركية مؤقّتاً بسبب طائرات مُسيّرة مجهولة، وتكرار اختراق طائرات روسية مُسيّرة للأجواء البولندية. ووصفت فون دير لاين المشروع بأنه “نظام مضاد للطائرات المُسيّرة قادر على الكشف السريع والاعتراض، وإذا لزم الأمر، التحييد”.
على أن طموح بروكسيل اصطدم مرة أخرى بالواقع السياسي؛ إذ أبدت قوى عسكرية رئيسية مثل فرنسا وألمانيا تشكّكاً واضحاً في فكرة إدارة المفوّضية لمشروع دفاعي بهذا الحجم. فبالنسبة إلى باريس وبرلين، لا يتعلق الأمر فقط بالفعالية التقنية، بل بالسيادة الوطنية والسيطرة على صناعاتهما الدفاعية الضخمة. كما طالبت دول من جنوب أوروبا بتوسيع مفهوم الجدار ليشمل حماية أوسع لحدودها، في إشارة ضمنية إلى استخدامه في مراقبة الهجرة من الشرق الأوسط وأفريقيا.
هذا الصراع على القيادة بين بروكسيل والعواصم الوطنية، أدّى إلى نتيجة باهتة: اتفاق على المبدأ العام المتمثّل بضرورة تعزيز القدرات، ولكن من دون تفاصيل واضحة حول كيفية التنفيذ أو من سيقود العملية. وكان حاول المستشار الألماني، فريدريش ميرتس، عند وصوله، لفت الانتباه إلى ملف “القدرة التنافسية” للاقتصاد الأوروبي، لكنّ أجندته الاقتصادية طغت عليها بالكامل الهواجس الأمنية والعسكرية، ما يوضح التحول الكبير في أولويات الاتحاد بعيداً عن القضايا الحقيقية التي تواجه ملايين الأوروبيين – من تآكل الأجور وأزمة تكاليف المعيشة إلى تدهور الخدمات العامة – لصالح هوس جماعي بالعسكرة والحرب.
وامتدت الانقسامات لتشمل القضايا السياسية الجوهرية التي تحدد مستقبل الاتحاد؛ حيث قُوبل اقتراح رئيس المجلس بتسريع محادثات انضمام أوكرانيا عبر التخلي عن شرط الإجماع، بالرفض الفوري. وعلى الرغم من أن رئيس الوزراء الهنغاري، فيكتور أوربان، كان المعارض الأكثر صخباً، إلا أن مصادر دبلوماسية أكّدت أن دولاً أخرى، بما في ذلك فرنسا وهولندا واليونان، تشاركه تحفّظاته، وإن بدرجة أقل من العلنية، إذ إن القلق من التداعيات المالية والسياسية لدمج اقتصاد ضخم ومدمّر بالحرب مثل أوكرانيا، ومنح الأخيرة نفوذاً كبيراً داخل مؤسسات الاتحاد، بدا مشتركاً بين عدد من الدول الأعضاء المؤسّسة.
وتجلّى نموذج من ذلك الانقسام، في مشادّة كلامية علنية ونادرة بين رئيس الوزراء البولندي، دونالد توسك، وأوربان. فقبل بدء الاجتماع، قال الأخير للصحافيين: “كلنا نتفق على التسلح أكثر من روسيا، فلماذا نحن خائفون؟ نحن أقوى منهم”، فردّ توسك، الذي كان يقف بجانبه، بتهكم: “أحبه عندما يستخدم حججي”. واستؤنف النقاش لاحقاً عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حيث كتب توسك موجّهاً كلامه إلى أوربان: “روسيا هي التي بدأت الحرب… السؤال الوحيد في مثل هذا الوقت هو: في أي جانب تقف؟”، ليردّ الأخير على الفور بالقول: “روسيا في حالة حرب. أوكرانيا في حالة حرب. هنغاريا ليست كذلك… نحن نقف بحزم إلى جانب هنغاريا”.
بالنتيجة، مثّلت قمة كوبنهاغن لحظة من الواقعية السياسية الصعبة بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي؛ إذ أظهرت أن هناك إجماعاً قوياً بين البرجوازيات الوطنية على الهدف الاستراتيجي العام، المتمثّل في احتواء روسيا ودعم أوكرانيا للبقاء؛ على أنّه وبمجرد الانتقال من الأطر العامة إلى التفاصيل العملية – كيفية التمويل، ومن يقود الدفاع؟ وما هو مستقبل التوسع؟ – تظهر الانقسامات العميقة حول المصالح والسيادة والآليات القانونية.
والمحصّلة أنه تم تأجيل اتخاذ القرارات الكبرى، ما يسلّط ضغطاً هائلاً على القادة لإيجاد حلول وسط في الأسابيع المقبلة، التي ستكون حاسمة في تحديد ما إذا كانت أوروبا قادرة على ترجمة طموحاتها إلى أفعال موحّدة، أم أن خلافاتها الداخلية ستظل تعيق استجابتها لأكبر أزمة أمنية تواجهها منذ عقود، في ظل فشل جهود التوصل إلى تسوية للحرب في أوكرانيا، وتغيير الولايات المتحدة – في عهد الرئيس ترامب – لأولوياتها الأمنية.














