| زينة أرزوني |
لم يكن مشهد السيناتور الأميركي ليندسي غراهام في القصر الجمهوري اللبناني مجرد زيارة دبلوماسية. بل بدا أقرب إلى استعادة كاملة لخطاب الاستعمار الكلاسيكي، حين كان الغزاة يتحدثون باسم “الرب” و”الحضارة” لـ”نشر النور” في البلدان التي يغزونها.
غراهام، المعروف بتصريحاته المتطرفة وتأييده المطلق لـ”إسرائيل”، صعد إلى منبر بعبدا ليتحدث عن “مصلحة الشعب اللبناني”، وضرورة دعم الجيش، وسحب سلاح “حزب الله” تحت عنوان “السلام والديمقراطية”.
لكن خلف هذا الخطاب المعلّب، كان غراهام أعاد تكرار واحدة من أخطر روايات التفوق الديني والسياسي، حين قال:”إذا تخلّت أميركا عن إسرائيل، سيتخلى الرب عنا”.
وبنفس الذهنية الاستعمارية، كان قد تحدث عن “إسرائيل” كـ”واحة ديمقراطية محاطة بمتوحشين”، ودعا لبنان إلى “إعادة النظر” في موقعه الجيوسياسي، لا من منطلق المصلحة الوطنية، بل من زاوية خدمة التحالف الأميركي-الإسرائيلي.
اللافت أن الرجل نفسه سبق ودعا إلى استخدام السلاح النووي في غزة، واتهم القضاة الدوليين بمعاداة السامية فقط لأنهم سمحوا بمحاكمة “إسرائيل” أمام محكمة العدل الدولية. فهل هذا هو الضامن لسيادة لبنان؟ أم أن ما جرى في بعبدا هو لحظة سقوط السيادة على مذبح الوصاية الأميركية؟
فجأة أصبح مع غراهام الاحتلال “حنوناً”، والمستعمر “راعياً للسلام”، أما المقاومة فتحولت إلى عائق بوجه “الاستثمارات”. بالفعل، مشهد يستحق سجدة طويلة ودعاءً بأن تمر هذه المرحلة بأقل قدر من الكوميديا السوداء.
استثمار مقابل نزع السلاح… و”شتائم على الطريق”
وإذا كان غراهام قد استعرض “حنانه” للشعب اللبناني ومعرفته بـ”مصلحة” المسيحيين، فإن مبعوث ترامب، توم براك، فضّل لغة السوق: تهديدات ناعمة، عروض استثمار، وقليل من الإهانة على الهامش. ففي مشهد كاريكاتوري، وصف الصحفيين بـ”الحيوانات”، فقط لأن أحدهم تجرأ وسأله سؤالًا لم يعجبه.
ردّة الفعل الرسمية كانت.. بيان “أسف مقتضب” من رئاسة الجمهورية بعد بيان استنكار من نقابة المحررين، البيان الرئاسي عجز حتى عن تسمية المعتدي، بينما الصحافيون أُهينوا على منبر الرئاسة. والملفت أن الصحافيين لم ينتفضوا ضد هذه الهانة، ولم يخرجوا من القاعة ويقطعوا البث الحي للمؤتمر الصحافي، مع العلم أن غالبية الصحافيين الموجودين في قصر بعبدا لا يتوقف سيل إبداعهم على منصة “اكس”، أو عبر رسائلهم المباشرة عن الحديث عن “السيادة” و”الهيمنة الإيرانية”! الغريب أن ألسنتهم لم تخرج من حلقهم اعتراضاً على إهانة براك لهم.. ولكن للأسف ففي لبنان لا يوجد منتظر الزيدي الذي رشق الرئيس الأميركي جورج بوش بحذائه.
يبدو أن السيادة، هنا، تقف عند عتبة باب الإعلام، ولا تتجاوزها، وعلينا التعود أن هذه هي السيادة التي تبشّر بها واشنطن للبنان.
أورتاغوس… ودبلوماسية قصّ الشعر
وسط هذا المشهد، اختارت مورغان أورتاغوس، نائبة المبعوث الأميركي إلى الشرق الأوسط، أن تستعرض اندماجها بـ”المجتمع اللبناني” من خلال قصة شعر أجرتها لدى مصفّف لبناني، وبدلة زرقاء رمزية.
لكن اللون لم يكن عشوائيًا. فـ”الأزرق الملكي” الذي ارتدته هو اللون الرسمي لسلاح الجو الأميركي، في إشارة رمزية إلى الغطاء العسكري الأميركي المحتمل لأي مشروع نزع سلاح.
في رسالة بصرية واضحة: واشنطن تدعم الجيش اللبناني، شرط أن يكون وحيدًا على الساحة.
بينما كانت أورتاغوس، تستعرض قصّة شعرها الجديدة في عين التينة، وتطلب رأي الصحافيين بمدى “الاندماج المجتمعي” الذي تحقق في الصالون، كانت الورقة الأميركية قد تسللت بهدوء عبر المبعوثين، تحت عنوان “منطقة ترامب الاقتصادية” في جنوب لبنان!
منطقة ترامب الاقتصادية: تطبيع مُقنّع.. أم احتلال اقتصادي؟
الخطة، بنسختها غير الرسمية، تقترح إنشاء منطقة اقتصادية قرب الحدود، من المفترض أن تنعش الاقتصاد، وتغري “المقاومين” بالتحوّل إلى روّاد أعمال بدلاً من المقاتلين. نعم، هناك من يعتقد أن بضعة استثمارات و”فود تركس” يمكنها سحب سلاح المقاومة.
لكن من سيحمي هذه المنطقة؟ ومن يضمن ألا تتحول إلى بوابة خلفية لوجود أمني إسرائيلي؟ وهل سيدخل المستوطنون من الجهة الأخرى للتبضّع من “مول ترامب الحدودي”؟ كل هذا باسم “السلام والتنمية”.
ما يجري اليوم ليس جديداً، بل هو تحديث ناعم لنهج طويل استخدمته الإدارات الأميركية المتعاقبة تجاه لبنان: لا دعم مباشر للدولة إلا بشروط، لا مخرج للأزمة إلا من بوابة واشنطن، لا استقرار حقيقي إلا إذا تخلّى لبنان عن معادلة “الجيش والشعب والمقاومة”.
إنها وصفة دقيقة لتطبيع تدريجي مقنّع، يجري تمريره عبر بوابة “الفرص الاقتصادية”، في بلد يعيش أسوأ أزماته المالية منذ تأسيسه.
أما الدولة اللبنانية، فمُطالبة اليوم أكثر من أي وقت مضى بإعادة تعريف سيادتها.
والاجابة على أسئلة كثيرة:
ـ هل السيادة تعني الصمت على إهانة الصحافيين؟
ـ هل تعني تجاهل مشروع اقتصادي قد يزرع بذور الفتنة والتقسيم؟
ـ هل يُعقل أن تكون قصة شعر دبلوماسية أهم من استباحة القرار الوطني؟
لبنان ليس للبيع، ولا يُدار بمنطقة اقتصادية على الحدود. والسيادة، إن فُقدت على المنبر، فلن تُعوّض بمنحة أو صندوق استثماري.
للانضمام إلى مجموعة “الجريدة” إضغط على الرابط














