| حيدر خليل |
لم يكن مشهد الشاحنة الصغيرة الخارجة من المخيم الفلسطيني في برج البراجنة محمّلة ببعض الأسلحة والذخائر، حدثًا عابرًا، بل جاء في توقيت سياسي حساس، بعد قرار الحكومة اللبنانية القاضي بحصرية السلاح بيد الدولة. هذه اللحظة أعادت طرح ملف السلاح الفلسطيني في لبنان، وهو ملف طالما اعتُبر خطًا أحمرًا يصعب الاقتراب منه، فكيف يمكن قراءة ما جرى؟
بدا تسلّم الجيش اللبناني للأسلحة المحدودة، بمثابة الامتحان الأول لقرار الحكومة. فالدولة التي أعلنت نيتها فرض سلطتها على كامل أراضيها، بدأت من المخيمات الفلسطينية، ربما باعتبارها الحلقة الأقل كلفة سياسيًا مقارنة بالسلاح الداخلي أو سلاح “حزب الله”. لكن حجم الشحنة المحدود، كشف أن الطريق بين القرار والتنفيذ مليء بالعقبات والتوازنات.
لم تتأخر الفصائل الفلسطينية في التأكيد أن ما جرى لا يندرج ضمن خطة لنزع سلاحها، بل هو شأن تنظيمي داخلي يخصّ حركة “فتح”، ولا علاقة له لا من قريب ولا من بعيد بمسألة السلاح الفلسطيني في المخيمات. هذا الموقف يحمل دلالات واضحة: السلاح بالنسبة للفصائل الفلسطينة في لبنان ليس مجرد وسيلة حماية داخلية، بل ورقة قوة سياسية وأمنية في ظل غياب أي أفق لحل قضية اللاجئين، وخوف دائم من سيناريو التوطين أو التهجير.. وتكرار نموذج مجازر صبرا وشاتيلا.
الجيش اللبناني الذي وجد نفسه في قلب هذا الملف المعقّد، يحاول تطبيق القرار الحكومي من دون انزلاق إلى مواجهة مباشرة داخل المخيمات. فهو يدرك أن أي خطوة غير محسوبة قد تتحول إلى اشتباك دموي يعيد فتح جراح الماضي. لذا، جاء تسلّم الشحنة كرسالة رمزية: الدولة موجودة، لكنها غير قادرة بعد على فرض سيادتها الكاملة.
يمكن قراءة ما حدث كعملية “جس نبض”. من جهة، أراد لبنان الرسمي أن يبعث برسالة إلى الداخل والخارج بأنه بدأ خطوات عملية لترجمة قراره بشأن السلاح. ومن جهة أخرى، أرادت حركة “فتح” أن تفتح الباب على تسليم سلاح باقي الفصائل، وذلك تنفيذاً لقرار رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، على الرغم من لخلافات داخل “فتح” نفسها بشأن قرار تسليم السلاح. النتيجة كانت صورة خطوة في اتجاه “تسليف” الحكومة اللبنانية ومنحها جرعة، لكنها لا تغيّر شيئًا في ميزان القوى الحقيقي.
الخطوة كشفت معضلة أساسية: حصرية السلاح بيد الدولة شعار يصعب ترجمته من دون توافقات كبرى. فالسلاح الفلسطيني ليس ملفًا داخليًا فحسب، بل يتداخل مع الحسابات الإقليمية والدولية، من دمشق إلى طهران وغزة. وأي محاولة لانتزاعه بالكامل قد تفتح أبواب مواجهة أوسع من قدرة لبنان على تحملها.
ولهذا، فإن تسليم الأسلحة في برج البراجنة لم يكن بداية فعلية لخطة نزع السلاح بقدر ما كان إشارة سياسية مركّبة: الدولة أرادت أن تُظهر قدرتها، و”فتح” أرادت إحراج الفصائل، والفصائل أرادات إحراج محمود عباس بأنه ليس صاحب القرار وحيداً.
وفي ظل هذه المعادلة، يبقى الملف مفتوحًا على احتمالات كثيرة، لكنه يختبر جدية قرار الحكومة، ويمهّد لمرحلة جديدة من التفاوض والتجاذب حول مستقبل السلاح الفلسطيني في لبنان الذي قد يكون “الفدية” في مسار قرار “حصرية السلاح”، ومن بعدها “كفى الله المؤمنين شرّ القتال”!














