| حيدر خليل |
لا تبدو زيارة الموفدين الأميركيين توم براك ومورغان أورتاغوس إلى بيروت مجرّد محطة بروتوكولية، بل هي عودة أميركية مباشرة إلى قلب الساحة اللبنانية.
التوقيت بحدّ ذاته يحمل دلالات سياسية عميقة، فالولايات المتحدة لا تريد للبنان أن يكون ساحة متروكة لإيران وحلفائها، ولا ورقة بيد فرنسا وحدها، بل فضاءً لا بد من إعادة تثبيت نفوذها فيه.
الزيارة تأتي بعد القرار الحكومي بحصر السلاح بيد الدولة، وهو قرار يمكن قراءته في واشنطن على أنه خطوة رمزية تحتاج إلى ترجمة عملية. هنا يبرز السؤال الأساسي: هل تستطيع الحكومة اللبنانية أن تثبت جديتها في فرض السيادة.. أم أن القرار سيبقى حبراً على ورق في ظل قوة “حزب الله” وحضوره الميداني والسياسي؟
الوفد الأميركي سيطرح هذا السؤال بطرق مختلفة، لا عبر المواجهة المباشرة مع الحزب، بل من خلال قياس مدى التزام الدولة ومؤسساتها بالمسار الذي اختارته.
جزء أساسي من المباحثات سيكون مرتبطاً بالجنوب اللبناني. النقاط الخمس التي لا تزال “إسرائيل” تحتلها، والاعتداءات المتكررة التي تطال معظم الأراضي اللبنانية، تطرح ملفاً قديماً ـ جديداً. واشنطن تدرك أن أي تقدّم في هذا المجال يعزز شرعية الدولة اللبنانية ويضعف مبررات السلاح خارجها. لكن في المقابل، فإنها لا تستطيع أن تفصل هذا الملف عن الضمانات الأمنية لـ”إسرائيل”، ما يجعل الوساطة الأميركية لعبة دقيقة بين تطمين لبنان وطمأنة كيان الاحتلال في آن.
إلى جانب السياسة والأمن، سيكون الاقتصاد جزءاً من أجندة براك وأورتاغوس. الإصلاحات المطلوبة من الحكومة اللبنانية ليست فقط شرطاً لصندوق النقد الدولي أو للمانحين، بل هي أداة ضغط بيد واشنطن. الرسالة واضحة: “لا مساعدات ولا استثمارات من دون خطوات ملموسة”. بهذا المعنى، تتحول الأزمة الاقتصادية اللبنانية إلى ورقة تفاوضية تستخدمها واشنطن لإجبار بيروت على التماهي أكثر مع سياساتها في ملفات السلاح والحدود.
في العمق، الزيارة ليست مجرد تواصل مع الدولة اللبنانية، بل هي أيضاً رسالة إلى إيران وحلفائها. واشنطن تقول عملياً إنها لن تسمح بترك لبنان في الفلك الإيراني وحده، وإنها قادرة على العودة إلى الساحة متى شاءت، عبر دعم الجيش، أو عبر تحريك الملفات الاقتصادية، أو حتى عبر استخدام نفوذها الدولي لإعادة ترتيب الأولويات اللبنانية. في المقابل، سيقرأ “حزب الله” هذه الزيارة على أنها محاولة لمحاصرته سياسياً، وهو ما قد يدفعه إلى التشدد أكثر في مقاربة الداخل.
لا يمكن النظر إلى زيارة براك وأورتاغوس إلا كجزء من المشهد الإقليمي الأوسع: صراع أميركي ـ إيراني، حضور فرنسي يسعى للوساطة، وحكومة لبنانية تحاول تثبيت نفسها وسط عاصفة من التوازنات. هذه الزيارة ليست نهاية المسار، لكنها إشارة إلى أن لبنان سيبقى ساحة اختبار لموازين القوى، وأن كل خطوة داخلية ـ من قرار السيادة إلى مفاوضات الحدود ـ ستُقرأ دولياً قبل أن تُترجم محلياً.














