| ميرا عيسى |
بيروت، المدينة التي حتضنت الأحلام أنّت تحت وطأة الألم، حين هزّ ذلك التفجير العنيف أركانها وترك في أعماقها ندوبًا لا يُمحى أثرها. عند الساعة السادسة وسبع دقائق، دُمّرت بيروت وذكرياتنا معاً، في إنفجار جمّد الزمن بعدما رأيت بيروت مصلوبة على جلجلة الظلم نتيجة الفساد السياسي والمحاصصة التي إغتالت طموحاتنا.
ففي ذكرى الرابع من آب نستذكر الأسماء والوجوه التي رحلت بلا وداع، ونقف مع أولئك الذين فقدوا وطنهم وأمانهم، ونؤكد أن ذاكرة الألم ستظل حية، حتى تتحقق العدالة وتعود بيروت إلى قلبها النابض.
حين يتحول الإهمال إلى جريمة دولة
في مثل هذا اليوم قبل ٥ سنوات، إنفجرت كمية هائلة من نيترات الأمونيوم المخزّنة بشكل غير آمن في مرفأ العاصمة، فأودت بحياة ما لا يقل عن 220 شخصًا، وجرحت أكثر من 6,500 آخرين، نتيجة الفساد والإهمال السياسي.
لم يكن انفجار مرفأ بيروت مجرّد حادث عرضي، بل نتيجة مباشرة لعقود من الإهمال السياسي المزمن والفساد المتجذّر في مؤسسات الدولة.
المواد التي انفجرت كانت معروفة بوجودها في المرفأ منذ عام 2014، وقد أُرسلت عشرات المراسلات التحذيرية إلى المسؤولين من دون أي استجابة تُذكر.
هذا الإهمال لم يكن مجرد تقصير إداري، بل انعكاس لنهج سلطوي يُغَلّب المحاصصة السياسية والمصالح الشخصية على حساب أمن الناس وسلامتهم.
تجاهل المسؤولين لتلك التحذيرات، وعدم تحمّلهم للمساءلة حتى بعد الكارثة، يكشف عمق التهاون وغياب أي مفهوم حقيقي للمسؤولية العامة. في بلد كلبنان، لا يُقاس الإهمال فقط بما لم يُفعل، بل أيضاً بما تم تجاهله عن وعي، ولو على حساب أرواح بريئة.
حكايات منسية في ظل دولة عاجزة
في انفجار مرفأ بيروت بتاريخ 4 آب 2020، كانت ليليان شعيتو، البالغة آنذاك 27 عاماً، تتسوق في وسط العاصمة عندما وقع الانفجار، مما أدى إلى إصابتها إصابة بالغة في الفص الجبهي من الدماغ، فدخلت بعدها بغيبوبة استمرت لأشهر ومكثت في المستشفى تحت العلاج وإجراء ثلاث عمليات جراحية.
لم تستطع النطق أو التحرك، وظلت لفترة طويلة عاجزة عن التواصل. بعد نحو عامين، نطقت بكلمة “ماما”، ما اعتبرته عائلتها صرخة نداء لابنها علي الذي لم تره بسبب نزاع على حضانته مع زوجها.
وبحلول نهاية عام 2023، بدأ التحسن يظهر جليًا عليها ولكن على الرغم من ذلك، لم تنته المعاناة النفسية، إذ ما زالت محرومة من رؤية ابنها.
أما الشهيد علي مشيك، البروليتاري الذي إستشهد من أجل لقمة عيشه، ذلك الحمّال الذي عاد بعد إنتهاء دوامه لإنجاز مهمة إضافية مقابل 5000 ليرة لبنانية، أنجز عمله ومضى.
أب لثلاثة أطفال، استشهد في سبيل قضية الفقراء والمقهورين في بلادنا، في ظل دولة رأسمالية كدولتنا لا تعترف بحقوق العمال، يُنسى علي مشيك، والذي يشبه العديد من الآباء الذين يستنزفون كل طاقتهم من أجل لقمة عيش عائلاتهم.
نتيجة نظام المصارف والرأسمالية السياسية التي تتغلغل في دولتنا، يموت علي مشيك مع حقه في العمل والحياة، ومن يذكر الفقراء؟ لطالما كانوا ضحية هذه الانظمة التي تمتص الطبقة الكادحة من اجل مصالحهم البالية.
“دولتي فعلت هذا”، كتبناها على جدران بيروت في نهار المظاهرة للمطالبة بالعدالة وسأبقى أكررها الآن، دولتي هي المتهمة الأولى في هذا التفجير.
وعلى الرغم من مرور خمس سنوات، لا يزال التحقيق القضائي اللبناني مجمّداً بسبب الدعاوى القانونية التي تقدم بها عدد من المسؤولين المدعى عليهم لوقف القاضي طارق البيطار عن عمله.
وقد فشلت كل المحاولات لإعادة تفعيل التحقيق المحلي أو التوجه نحو تحقيق دولي، رغم مطالبات الأهالي ومنظمات حقوقية محلية ودولية، ولذلك نجدد دعوتنا اليوم.
في ذكرى تفجير مرفأ بيروت، لا تكفي الكلمات ولا تفي الأحرف حقّ هذا الجرح المفتوح الذي ما زال ينزف في ذاكرة الوطن وقلوب أبنائه.
الرابع من آب لم يكن مجرد يوم حزين، بل لحظة فاصلة كشفت عن عمق الإهمال، وحجم الألم، وقوة شعب لا يزال رغم كل شيء، يتمسك بالحياة.
استذكار هذه الفاجعة ليس فقط لتأبين الضحايا، بل هو نداء مستمر للعدالة، ولعدم النسيان. فبيروت التي دُمّرت، تستحق أن تُبنى من جديد على أسس من المحاسبة والكرامة، لا على ركام الوعود الكاذبة. فليكن الألم حافزًا، والذكرى التزامًا، والعدالة حقًا لا يُساوَم عليه.
للانضمام إلى مجموعة “الجريدة” إضغط على الرابط














