| ناديا الحلاق |
في شوارع بيروت المكتظة، وعلى تقاطعاتها المرورية، تصطف السيارات المتوقفة عند الإشارات الحمراء، وبينها تتسلّل وجوه مألوفة: أطفال حفاة، نساء يحملن رضّعاً، وشيوخ بملامح أنهكها الزمن، يطرقون نوافذ السيارات، يمدون أيديهم، ويرددون عبارات باتت تتكرر يومياً.
ظاهرة التسوّل في لبنان خرجت من إطار الحاجة والفقر، لتتحول إلى مشهد يومي مألوف بل ومؤسس، تقف خلفه شبكات منظمة، وعلى مرأى ومسمع من قوى الأمن والدولة الغائبة.
ومع أن البعض لا يزال يرى في هؤلاء المتسولين مجرد ضحايا للظروف القاسية، إلا أن الواقع الميداني يرسم صورة أكثر تعقيداً. ففي جولة بسيطة في بيروت أو طرابلس أو حتى صيدا، لن تمر أكثر من خمس دقائق عند إشارة مرور من دون أن يُطرق زجاج سيارتك. الأطفال يتنقلون بسرعة بين المركبات، غير آبهين بخطر الحوادث، وكأنهم مدربون. البعض منهم يرتمي فجأة على مقدمة السيارة، أو يبادر بمسح الزجاج الأمامي دون استئذان، وبطريقة عدوانية أحياناً، ما يثير الذعر والانزعاج لدى السائقين.
اللافت في الأمر، أن بعض المتسولين من كبار السن والشباب، هم من جنسية غير لبنانية، إلا أنهم أتقنوا اللهجة اللبنانية، ويدّعون بأنهم لبنانيون ليستعطفوا الآخرين.
ومثلاً، إذا استشعروا أنك من الجنوب يذكرون اسم قرية جنوبية، وأنهم منها، وخسروا منزلهم في الحرب.
أما في جونية، فتصبح جعيتا مسقط رأسهم، وابنتهم في المستشفى تصارع السرطان!
هذه السلوكيات لم تعد استثناء، بل أصبحت جزءاً من المشهد اليومي الذي يفرض نفسه على المواطنين. الأمر لا يقتصر على الأطفال فقط، بل هناك نساء يحملن أطفالاً نائمين أو بالأحرى مخدّرين، بحسب ما يؤكده ناشطون إنسانيون، يُستخدمون بوضوح لاستدرار الشفقة. في المقابل، يشتكي كثير من السائقين من الإلحاح الشديد الذي يعرقل سيرهم، وأحياناً يعرّضهم لمواقف محرجة أو حتى تهديد مبطن.
ومع تكرار المشهد، أصبح كثيرون على قناعة أن ما يحدث لا يرتبط بالعوز وحده، بل هو نتيجة منظومة تعمل على استغلال الفقر، وتحويله إلى أداة استرزاق منظمة. فهؤلاء المتسوّلون لا يتحركون عشوائياً، بل ضمن خطة محددة، تفرضها جهات خفية تدير هذا “القطاع” وكأنه مؤسسة غير شرعية ولكن فعّالة.
عصابات منظّمة.. “مافيا التسوّل”
هذا الاعتقاد لا يأتي من فراغ. إذ تشير معطيات أمنية إلى أن عدداً كبيراً من المتسوّلين في الشوارع ليسوا أفراداً يعملون لحسابهم الخاص، بل هم جزء من شبكات يديرها مشغّلون يتحكمون بتحركاتهم ومداخيلهم. وتُفرض على هؤلاء المتسوّلين “حصص يومية” يجب تسليمها، وإلا تعرضوا للعقاب. وفي كثير من الأحيان، يتم استغلال أطفال ونساء وذوي احتياجات خاصة بشكل مبرمج ومدروس.
وفي محاولة لفهم الصورة من الداخل، تواصل موقع الجريدة مع عدد من المتسولين في شوارع بيروت، بينهم نساء وأطفال. معظمهم رفض الحديث، أو تهرب بصمت أو بابتسامة حذرة، لكن أحد الأطفال، لم يتجاوز العاشرة من عمره، اعترف بصوت خافت أنه “لا يحتفظ بالمال” الذي يجمعه، بل يسلمه كل مساء “للرجل” الذي ينتظره في مكان محدد. هذا الاعتراف البريء كفيل بإلقاء الضوء على مدى السيطرة التي تمارسها هذه الشبكات على الأطفال، وعلى حجم الاستغلال اليومي الذي يتعرضون له.
ولكن أين تنطلق هذه الشبكات؟ ومن أين تُدار؟
مقرات خلفية.. ومناطق نفوذ
بعيداً عن إشارات المرور والمناطق المكتظة، هناك ما يشبه “غرف العمليات” لهذه العصابات، والتي تستخدم كقواعد انطلاق وتنظيم. ففي ضواحي بيروت الجنوبية، تعتبر منطقة خلدة من أبرز النقاط التي يعتقد أن بعض العصابات تتخذ منها قاعدة لوجستية، نظراً لقربها من طريق المطار وسهولة الوصول منها إلى بيروت وصيدا والدورة.
كذلك تذكر منطقة صبرا، الرحاب، والرمل العالي كأماكن تحتضن أنشطة مماثلة، حيث تغيب الرقابة وتنتشر الأحياء الفقيرة، ما يجعلها بيئة خصبة لنشاط هذه العصابات. أما في برج حمود والبوشرية، فتُشير شهادات محلية إلى وجود “أوكار” في مبانٍ مهجورة أو طوابق سفلية يتم فيها إيواء الأطفال أو النساء قبل توزيعهم صباحاً على نقاط التسوّل.
هذه البنية شبه المنظمة، والتي تعمل بفعالية واضحة، لا يمكن أن تكون بعيدة عن أعين السلطات… ولكن لماذا لا تتحرّك الدولة؟
على مرأى قوى الأمن.. والدولة عاجزة
المفارقة الصارخة أن كل هذا يجري في العلن، وفي وضح النهار، وأمام أعين عناصر قوى الأمن المنتشرين عند التقاطعات الرئيسية. لا أحد يتحرّك، ولا وجود لأي حملة رادعة. وحين يُسأل أحد العناصر عن سبب السكوت، غالباً ما يأتي الجواب محبطًا: “نتلقى أوامر بعدم التدخل، لأن الملف يتبع جهات أخرى”.
ما يتسرّب من داخل وزارة الداخلية لا يبشّر بخير، فالوضع أكثر هشاشة مما يبدو. قوى الأمن تفتقر إلى الموارد، والوزارات المعنية تتقاذف المسؤوليات، وسط غياب أي خطة شاملة. الدولة، كما يبدو، تراقب بصمت، أو تعاني من شلل تام يجعلها غير قادرة حتى على احتواء هذه الظاهرة البسيطة في ظاهرها والعميقة في جذورها.
ضحايا بلا حماية
في خضم هذه الفوضى، هناك من يدفع الثمن: الأطفال. هؤلاء الذين يحرمون من التعليم، ويُزجّ بهم في الشوارع، يتعرضون يومياً للاستغلال الجسدي والنفسي، وربما حتى الجنسي، في غياب أي آلية لحمايتهم.
التقارير الحقوقية، وإن كانت محدودة، تشير إلى أن معظم الأطفال هم من جنسيات غير لبنانية، جُلبوا عبر الحدود أو من مخيمات نازحين، ليتم استخدامهم في التسوّل. ومع غياب المساءلة، يتحول هؤلاء إلى أدوات في أيدي عصابات لا تتورع عن استخدام أقسى الأساليب لتحقيق الربح.
إلى متى؟
التسوّل في لبنان لم يعد مجرد انعكاس للفقر، بل اصبح جزءًا من اقتصاد موازٍ تديره شبكات تزداد نفوذاً يوماً بعد يوم، مستفيدة من غياب الرقابة، ضعف مؤسسات الدولة، وتواطؤ البعض بصمته أو بسلبيته. المواطن، بدوره، يقف حائراً بين الشفقة والخوف، لا يعرف إن كان يساعد فعلاً أم يُغذّي منظومة فساد مستترة.
فإلى متى تبقى الدولة عاجزة، تتفرّج على التسول وهو يتحول إلى مهنة؟
إلى متى يبقى المواطن هو الضحية، والطفل هو الوقود، والعصابات هي الرابح الأكبر؟
وإلى متى نبقى نمرّ يومياً على هذا المشهد… دون أن نحرّك ساكناً














