| جورج علم |
إنها حقبة المراسلات. ولم نبلغ بعد مرحلة المفاوضات.
يصرف المسؤولون الوقت بتهيئة الردود على المقترحات الأميركيّة ـ الإسرئيليّة، ويأتي توم برّاك ليملي المواقف، ويهدّدنا بمزاج رئيسه دونالد ترامب، وأن “لصبره حدوداً”!
الأسلوب المتبع مجرّد هدر للوقت لتمرير قطب مخفيّة، وفرض أمر جديد على أرض الواقع.
أغلب الظن أن اللبنانيّين أمام محاولات إستدراج. إستدراج عروض، قد يؤدي لإستدراجهم نحو متاهات معتمة، وخيارات ملزمة، لا قدرة لهم على رفضها، أو التنكّر لها.
يكفي التوقف عند إشارات ثلاث تستدعي التهيّب:
الأولى: من هو توم برّاك؟ هل هو مفاوض يتنقّل بين بيروت، وواشنطن، وتل أبيب؟ أم ساعي بريد يقوم بنقل الرسائل؟ أم مهندس “سيناريوهات” إختصاصي في ترتيب “سيناريو” جديد لفيلم أميركي ـ إسرائيلي طويل حول لبنان، وموقعه في الشرق الأوسط الجديد؟
الحقيقة أنه لا يوجد في بيروت إجابة واحدة على هذه الأسئلة.
البعض من المسؤولين يستقبله على أنه المقرّب من ترامب، وأن الرئيس الأميركي إختاره لأنه زحلاوي الأصل، ويريد من خلاله أن يؤكّد للبنانيّين، على مدى حبّه للبنان.
البعض الآخر يستقبله على أنه آموس هوكشتاين جديد، لكن بأسلوب مختلف يحاكي “دبلوماسية قفز الأرنب” التي يعتمدها الجالس في البيت الأبيض.
الطرف الثالث يستقبله ” كمفوض سامي” في زمن العصر الأميركي الجديد في الشرق الأوسط، خصوصاً أنه يأتي كضليع في خفايا الأزمة، وشعابها، ويحمل أفكاراً تحت شعار المساعدة على ترسيم خريطة طريق تؤدي إلى حلول ومخارج.
الإشارة الثانية: ماذا جرى حول لبنان؟ وعلى ماذا تمّ الإتفاق ما بين ترامب ونتنياهو خلال القمم الثلاث بينهما، والتي عقدت مؤخراً في البيت الأبيض؟
لم تتبلغ بيروت إحاطة كاملة حول حقيقة ما جرى. إنها منهمكة في إعداد الردّ على الردّ قبل أن يصل برّاك، فيما “إسرائيل” تصعّد، وتشمل إعتداءاتها البقاع، وسلسلة الجبال الشرقيّة، وكل المناطق التي تريد تحويلها إلى أهداف، سواء في لبنان أو في سوريا.
المشهد مقلق. وكأن المفاوضات التي تجري “بالجملة والمفرّق”، وفي العلن، ووراء الكواليس، هي غير تلك التي تمارس على أرض الواقع، لفرض واقع جديد يبنى عليه. إنها “مفاوضات” القوّة، والتصعيد، والبراكين المشتعلة المتنقلة ما بين غزّة، والضفة، ولبنان، وسوريا، مروراً بإيران، ووصولاً إلى اليمن، وباب المندب، ومضيق هرمز.
نتلهى بقرقعة السلاح، والضجيج حول حتميّة حصر السلاح، فيما إتخذه العدو الإسرائيلي مبرّراً ليتوغّل أكثر، ويزيد من منسوب غاراته، وتوسيع دائرة إحتلالاته.
الثالثة: أي شرق أوسط جديد؟ هل الذي تتحدث عنه الإدارة الأميركيّة، أم الحكومة الإسرائيليّة؟
الأولى تقول بحفظ الكيانات، والحرص على سيادات الدول، مع بعض التغيير في المسارات. وحجّتها أن هذه الدول إنما هي حليفة، وتربطها بها شبكة من المصالح، والإتفاقيات، والتفاهمات. ويشكّل إستقرارها درعاً واقية لآبار النفط، وإستخراج النفط، وإمدادات النفط، وشرايين الإستثمارات، وأسواق الإستهلاك، والتنافس التجاري، الصناعي، والإقتصادي العالمي.
ليس لدى الولايات المتحدة من مشكلة معقّدة مع أي نظام معتمد في دول المنطقة، ولا حتى مع إيران التي شدّد ترامب حرصه على عدم إستهداف نظامها، إبان حرب الـ12 يوماً. وبالتالي عندما تكون الأمور على هذا القدر من الإنسياب، وعندما تكون القواعد العسكريّة الأميركيّة منتشرة برّاً وبحراً وجوّاً من المحيط إلى الخليج، فذلك يعني من المنظار الأميركي، تحويل الشرق الأوسط الجديد إلى حديقة وارفة بالمصالح، ووفق المواصفات المطلوبة.
أما الثانية، أي “إسرائيل”، فتريد الشرق الأوسط الجديد سلسلة من الدويلات الطائفيّة، الفئويّة المتفككة، الضعيفة، المتناحرة في ما بينها، والملحقة في خدمة المصالح الإسرائيليّة، تحت شعار التطبيع، أو الإلتحاق ب”الإتفاقيات الإبراهيميّة”.
وفق المعلن، هناك إختلاف في وجهات النظر الأميركيّة ـ الإسرائيليّة حول مواصفات الشرق الأوسط الجديد. لكلّ منهما مقاربة مختلفة عن الآخر. ووفق المضمون، هناك إستراتيجيّة مشتركة، وحضن سخيّ من الدعم الأميركي المالي، والعسكري، والمخابراتي، والتكنولوجي، للكيان الصهيوني. وما تقترفه حكومة نتنياهو من مجازر في غزّة، والعديد من دول وكيانات المنطقة، إنما يحصل بالتفاهم والتوافق مع الإدارة الأميركيّة، وبدعم مباشر، وصريح.
وتبدو سوريا ـ الشرع خير مثال على هذه الإزدواجيّة الأميركيّة ـ الإسرائيليّة.
يقول ترامب إنه رفع العقوبات. ووصف الرئيس أحمد الشرع بـ”الذكي والمقدام” بعدما إلتقاه في الرياض. ويريد منه ـ كما يكرّر دائما في تصريحاته ـ بناء سوريا ديمقراطية، واحدة، موحّدة، تضمّ جميع الطوائف، والمذاهب، والمشارب بصورة متساوية في الحقوق والواجبات. ويريدها أن تفتح صفحة جديدة مع “إسرائيل”، وأن تلتحق بـ”الإتفاقيات الإبراهيميّة”. فيما نتنياهو يريدها مشلّعة، وقد دخلها من الباب الواسع بعد سقوط نظام الأسد، وأطاح بإتفاق “فضّ الإشتباك”، وتوسّع في إحتلال الجولان، ومنحدرات جبل الشيخ، واستباح الأجواء السوريّة، وراح يقصف ويعتدي أنَّ شاء، ومتى شاء، وأسهم في إفتعال الحريق الذي التهم الساحل السوري على خلفيّة مذهبيّة ـ فئويّة، والذي لم تنطفئ شراراته بعد رغم المجازر التي ارتكبت، والتصفيات التي لم تنتهِ فصولا.
وتتكرّر أحداث السويداء على خلفيّة طائفيّة، مذهبيّة، فئويّة، وقد دخلها الإسرائيلي بالمباشر، وعلانيّة، تحت شعار حماية المواطنين المستهدفين. وتحدثت التقارير الدبلوماسيّة عن تدخل واشنطن بالمباشر لدى تل أبيب للحدّ من القصف الإسرائيلي لمواقع جيش النظام السوري، وثكناته.
يتحسّس لبنان هول ما يجري في السويداء. يحطاط للحؤول دون إنتقال الشرارة. وينكّب على صياغة الردّ على الردّ قبل أن يصل توم برّاك إلى بيروت.
ترى! أليس هو من ذكّرنا بأن لبنان قد يلتحق ببلاد الشام إذا لم يمتثل للأفكار الأميركيّة ـ الإسرائيليّة؟ أوليس هو من هدّد، وقال إن رئيسه يحبّ لبنان، ولكن صبره لن يدوم طويلاً، ويكاد أن ينفذ، إذا لم تتمّ حصرية السلاح؟!
هل المشكلة هي السلاح، أم مطامع “إسرائيل”؟ ثم، ألم يتحوّل هذا السلاح إلى حجة تتذرّع بها “إسرائيل” للتمادي في مشروعها التدميري ـ التفتيتي؟!
للانضمام إلى مجموعات “الجريدة” على “واتس آب” إضغط على الرابط














