
| القاضي د. محمد النقري |
انقضت مراسم الاحتفالات بعاشوراء، ولم يسأل المسلمون أنفسهم بسنّتهم وشيعتهم عما يجب عمله لتجنيب البلاد من خطورة التقاذف الإتهامي والتخويني الديني بينهما في هذه المناسبة.
في ملاعب الصبا والبراءة لم نكن لنشعر فيما قبل بهذه الفروق بين السنّة والشيعة، فكنا لباس بعضنا البعض نفرح ونحزن معاً لمناسبات تجمعنا ونتشارك بها، إلى أن دخلت إلينا – ولنقلها بصراحة – عادات وتقاليد وشعارات وشعائر لا تمتّ الى بيئتنا اللبنانية بشيء.
لست أقول ذلك متهماً الشيعة وحدهم بل وأشمل معهم السنّة أيضاً.
ألم يحن الوقت الى غربلة هذه العادات والتقاليد والآراء والفتاوى الدخيلة الى نسيجنا اللبناني المتنوّع والذي يمتاز به عن بقية شعوب العالم؟
حدثان مهمّان خارجيان كان لهما تأثير رئيسي في إزكاء هذه الخلافات: الثورة الإيرانية الإسلامية في إيران، وفك الإرتباط السنّي بالأزهر بعد توقيع معاهدة كامب ديفيد وزيارة الرئيس أنور السادات الى إسرائيل. فمن مستلزمات الثورة الإيرانية تصدير مبادئ وأسس المذهب الشيعي الإمامي بصيغته الفارسية، ومن مستلزمات فك الإرتباط بالأزهر دخول الأفكار السلفية إلى لبنان.
في المنحى الأول ودون الدخول في التفاصيل، دخل الى الإسلام الشيعي اللبناني المعتدل والذي كان يمثله جهابذة المراجع الدينية في جبل عامل وصور، ومن بعدهما الإمام موسى الصدر والشيخ محمد مهدي شمس الدين والشيخ محمد حسين فضل الله، وغيرهم، آراء وفتاوى وتقاليد وطقوس ليست من بيئتنا اللبنانية.
في المطل الآخر دخلت الى الإسلام السنّي آراء وفتاوى بعيدة عن الإنتماء العقائدي بصيغتي: الأشعرية والماتوريدية، وعن الإنتماء الفقهي بفرعيه الشافعي والحنفي، إلى جانب عدم مراعاتها لطبيعة العيش في مجتمعات متعددة الأديان والطوائف.
ومما زاد هذا الشرخ عمقاً هو تفضيل طلاب الحوزات العلمية بإكمال دراستهم الدينية في حوزات قم الإيرانية، وتفضيل طلاب الشريعة وأصول الدين السنّة الإلتحاق بالجامعات السلفية في الخارج، أو بالدراسة في لبنان في معاهد سلفية أو في معاهد خارجة عن سلطة ومراقبة دار الفتوى.
أعود الى موضوعنا بعنوان وماذا بعد عاشوراء التي نخشى من احتفالياتها في كل عام أن تأجج المزيد من الصراع والشرخ بين المكوّنين المسلمين في هذا البلد؟
في البدء أشير الى أن ما يبدو للبعض بأنه تقصير للسنّة في التعبير الجماهيري عن مأساة استشهاد الإمام الحسين في عاشوراء إنما يعود الى سبب أن السنّة لا يبنون على مناسبات الحزن أي طابع احتفالي أو تذكاري أو جماهيري فلا توجد أي مناسبات دينية حزينة يحتفل بها السنّة عن ذكرى موت النبي ولا أحد الأنبياء ولا الخلفاء ولا الأئمة ولا العلماء بعكس المذهب الشيعي، بل توجد إلى جانب العيدين الرئيسيين عيد الفطر وعيد الأضحى، مناسبات دينية احتفالية بذكرى مولد الأنبياء أو ذكرى ولادة بعض كبار العلماء أو المتصوفين.
ولكن رغم ذلك فإن المسلمين السنّة لم يستطيعوا حتى في مناسبات البهجة والفرح تطوير مفاهيمهم الإحتفالية بسبب الفتاوى السلفية التي تدرج الاحتفال بالمناسبات الدينية في خانة البدع، وكأنهم لم يدركوا بأن عدم إهمال الطابع الرمزي التصويري المبهج للمناسبات الدينية كمثل اعتماد شجرة النخلة والغار الذي التجأ إليه النبي صلى االله عليه وسلم في رحلته الى المدينة، وخيوط العنكبوت والحمام الراكد على مدخل الغار، يمكن أن يعيد الى ذكرى المولد ورأس السنة الهجرية بريق احتفاليات مبهجة وجذابة للأجيال الصاعدة، خاصة وأن ضعف الاحتفال بهاتين المناسبتين يعكس تحدّياً في تواصل الأجيال مع رمزية تاريخهم.
صيام عاشوراء
وأما صيام السنّة يوم عاشوراء فهو بناء على أحاديث معتمدة لديهم بأن النبي صلى االله عليه وسلم صامه وحثّ على صيامه فرحاً بنجاة النبي موسى والعبرانيين من الغرق، إلّا أنهم رغم ذلك لم يستثمروا هذا الحدث ليشهدوا العالم بأنهم لا يعادون من يخالفهم في الدين ولا في العرق ولا يسعون الى أسلمتهم وفرض ديانتهم عليهم بل يفرحون لنجاتهم من الظلم حين تستدعي دواعيه، وأن عدائهم للصهاينة وليس لليهود كدين، هو بسبب احتلالهم الأرض وطرد الشعب الفسلطيني من أرضه وأرض أجداده.
وكذلك أخطأ كثير من الشيعة – بتأثير من التقاليد الوافدة من الخارج – في إثارة الأحقاد ورفع رايات الثأر في عاشوراء في المناطق كافة وفي أحياء ذات أغلبية سنية بشكل يشعر به كل عاقل بأنهم يلمّحون الى السنّة باعتبارهم أحفاد قتلة الإمام الحسين. ولعلّ ما كتبه الإمام محمد مهدي شمس الدين رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الأسبق لخير دليل على ذلك: «هذه المسألة أقولها من مواقع المسؤولية أمام الله، لأننا وصلنا في لبنان وفي العالمين العربي والاسلامي إلى مرحلـــــة تُنــــذر بالكارثة، من هنا أخطــــر مادة نتعامـــــل معها هي مـــــادة التاريخ وهي مـــادة حيّــــة تتجدّد باستمرار. الشيعة مخطئون في فهمهم لهذه الذكرى على أنها ذكراهم، هم ينسبون إليهم وحدهم ذكرى هي ليست لهم وحدهم بالتأكيد. على مدى التاريخ المتأخّر في الإسلام، من العصر البويهي، ولدواعٍ طائفية محضة، أُعطيت هذه الذكرى مضموناً شيعياً، وكان تزويراً حقيراً وإجرامياً في حق هذه الذكرى، وتزويراً للتاريخ واستغلالاً، على أننا نكن احتراماً للبويهيين، ولكنهم زوّروا التاريخ، وسرقوا الذكرى، وأعطوها مفهومهم الطائفي على حساب جوانبها الإسلامية، وكان من خطأ أرباب الفكر في ذلك أنهم استجابوا لهذا التغيير، ودرج المسلمون من ذلك الحال وإلى العصر الحديث على هذا اللون من الفهم التاريخي المُزوَّر والمخالف لحقيقة التاريخ الإسلامي».
كذلك أدلى السيد محمد حسين فضل الله بدلوه في دعوته إلى عدم الإنزلاق في طقوس هذه المناسبة الى الشحن الطائفي، ذاهباً إلى تحريم رفـع أي شعار يثير الحساسيّات المذهبيّـة في عاشوراء معتبراً «بأن بعض شعائرها وخاصة اللطم الإستعراضي والتطبير يؤدي إلى هتك حرمة المذهب الشيعي وأهله لاستلزامه سخرية الناس بهم، لأن ذلك مظهر تخلّف وتأخّر، ناصحاً الإمتناع عن هذه العادة السيئة والاحتفال بها بذكر محاسن كلام أهل البيت وذكر سيرتهم وأخلاقهم، واقترح أن يخرج الشيعة بعاشوراء من دائرة التقليد، إلى دائرة الحركة والتأثير.. كما دعا إلى إدخال عاشوراء، والإسلام عموماً، في قلب العصر، من أجل أن ينفتح الآخرون على عاشوراء، وينفتحوا بالتالي على الإسلام، بكلّ رحابته. ومما يؤثر له مطالبته بتطويِر أسلوب الاحتفال بالذكرى، من خلال تجديد المضمون الفكري في النظرة إلى المأساة، بحسب الأساليب الفنيّة الأدبيّة الحديثة، حتّى يمكن للعصر أن يتعرَّف على هذه المضامين.
وكذلك السيد علي الأمين الذي ذهب الى القول بأن الكثير من الممارسات التي تجري في مناسبة عاشوراء أصبحت على مرور الزّمن من العادات والتّقاليد التي لا دليل عليها في أصل الشّرع، ولم يقم بممارستها أئمة أهل البيت في حياتهم، وأن تلك الأمور التي تجري اليوم هي بتشجيع من قراء العزاء الذين يبتدعون شتى الطرق لترويج أنفسهم وأحزابهم الطائفية لأغراض دعائية وسياسية في ظلّ الصمت من المرجعيات الدينية. وأردف قائلاً بأن طقوس عاشوراء هي خليط من عادات انتقلت إلى بعض مجتمعاتنا من ممارسات شعوب من غير المسلمين، والكثير من العلماء ومراجع الدّين الشيعة لا يمارسون تلك الأعمال ولا يحبّذونها، بل يذهب بعضهم إلى تحريم بعضها كإدماء الرّؤوس والأجساد ولا شك في أن التبرع بوحدة دم لإنقاذ إنسان هي الأقرب للّه تعالى من إراقتها في الشوارع والطرقات باسم الحزن على الحسين، ولا قيمة لدمع يذرف عليه إذا لم يغسل الأحقاد في الصدور ويزيل ما علق من الأدران في النفوس.
خطاب للعقلاء
ماذا بعد عاشوراء؟ ليس إلّا خطاباً لعقلاء المسلمين ومرجعياتهم الدينية والسياسية بأن يدخلوا الى قلب العصر ويطوّروا – بأساليب راقية تتقبّلها الأجيال القادمة – طرق ووسائل الاحتفاليات بها بعيداً عن الطقوس الدخيلة التي لا تشبهنا في شيء، ودون إثارة الأحقاد واللعن وطلبات الثأر من قتلة أصبحوا مدانين بها في محكمة السماء العادلة. كما أن صوم عاشوراء فرحة بنجاة النبي موسى وقومه بناء على أحاديث معتمدة عند السنّة، لا ينسينا البتّة مأساة كربلاء واستشهاد سيد الشهداء إمامنا الحسين في ذلك التاريخ، وأننا كمسلمين سنّة ننتهي عن تناول مواضيع الفتنة كتابة ومشافهة ونجعلها مناسبة للتفرقة واللعن وزرع الإحقاد فلإننا نعتبرها أحداثاً أليمة أريقت فيها وبسبب تناول أحاديثها ومجرياتها فيما بعد دماء المسلمين، فلا نستعيد أحداثها ولا أحاديثها ونطهر ألسنتا وأقلامنا بعدم ذكرها {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْـَألُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}.














