| زينة أرزوني |
في خطوة لافتة من حيث توقيتها ومضمونها، زار مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان العاصمة السورية دمشق، حيث منح الرئيس السوري أحمد الشرع “وسام دار الفتوى المذهّب”، في تكريم بدا للوهلة الأولى دينياً، لكنه حمل في طيّاته رسائل سياسية عابرة للحدود.
الزيارة تزامنت مع تسريب تقرير “إسرائيلي”، يُلمّح إلى صفقة إقليمية كبرى قد تشمل إعادة رسم خرائط النفوذ في المنطقة، مع حديث صريح عن احتمال ضم مدينة طرابلس وعكار والضنية والمنية و”بعض البقاع” إلى سوريا، مقابل تقدم في مشروع “التطبيع الإبراهيمي” بين دول عربية و”إسرائيل”.
طرابلس على الطاولة… من جديد؟
وفق التقرير “الإسرائيلي”، فإن هناك سيناريوهات لتسوية بين “إسرائيل” وسوريا، أبرزها يشمل إعادة أجزاء من الجولان لسوريا، لكن المفاجأة كانت بإدخال طرابلس وسهل البقاع في المعادلة.
يزعم التقرير أن سوريا تعتبر هذه المناطق جزءاً من أراضيها التاريخية التي اقتُطعت خلال الانتداب الفرنسي، وهي تطالب بها ضمن تسوية إقليمية أوسع.
الطرح ليس بريئاً، فإعلام العدو، كما يعلم الجميع، لا يُسرّب تقارير من باب التسلية، بل لاختبار ردود الفعل الإقليمية وتهيئة الأرضية لجعل “اللامعقول” يبدو مطروحاً على الطاولة. وهذا ما تفعله تقارير كهذه، التي تُطلق بالونات اختبار تتشابك فيها الجغرافيا بالدين، وتُستخدم فيها الرموز والمناسبات لصياغة مشهد سياسي جديد.
وسام المفتي.. تكريم ديني أم إعلان سياسي؟
منح وسام “دار الفتوى” للمفتي دريان لم يمر مرور الكرام، فقد أثار الاستهجان لفي المزاج اللبناني، ومن بينهم شريحة واسعة من السنّة، خصوصاً ان هذه الزيارة إلى دمشق هي الأولى منذ تولي دريان سدة الإفتاء منذ العام 2014، ومنح “وسام دار الفتوى المذهب” الأول كان لرئيس الجمهورية جوزاف عون في رمضان، واليوم الوسام الثاني للشرع، وهذا يُظهر أن هناك نوعاً من “التقاطع المؤقت” بين المرجعيات اللبنانية والنظام السوري. اليوم، ومع صعود أحمد الشرع إلى سدة الرئاسة الانتقالية في سوريا، وتراجع النظام القديم الذي كان يتزعمه بشار الأسد، يبدو أن عقارب البوصلة اللبنانية تعود لتشير نحو دمشق.
المفارقة أن بعض من كانوا في طليعة المقاطعين للنظام السوري، باتوا اليوم يصطفّون على أبواب قصر الشرع، ما يطرح تساؤلات عن حدود التحول السياسي، وعمّا إذا كان الأمر يتعدى المجاملة البروتوكولية، إلى إعادة إنتاج علاقة وصاية جديدة.
هل يُنصّب الشرع “أميراً” على سُنّة لبنان؟
السؤال الأكثر إثارة للجدل يبقى في موقع الطائفة السنية اللبنانية من كل هذه التحولات. فبعد سنوات من الفراغ القيادي، والتشرذم الداخلي، هل يكون أحمد الشرع هو الشخصية التي يُراد لها أن تقود مرحلة جديدة من العلاقة بين دمشق وسُنّة لبنان؟ وهل كان منح الوسام من المفتي دريان إشارة ضمنية إلى مباركة دينية لهذا التوجه؟ وماذا عن بقية القوى السنية اللبنانية، هل هي على علم وتوافق مع هذه الخطوة؟
وفي حال صحّت التسريبات، فإن الحديث عن تطبيع مقابل إعادة أراضٍ، قد يتحوّل قريباً إلى واقع جديد، يكون لبنان فيه جزءاً من صفقة أكبر، تتخطى حدود الجغرافيا إلى قلب الهوية السياسية والطائفية.
ففي منطقة تعيش على وقع تغييرات زلزالية، يبدو أن طرابلس لم تعد مجرد مدينة على الخريطة اللبنانية، بل ورقة إقليمية مطروحة في بازار التسويات، ويتضح أن زيارة المفتي دريان إلى دمشق لم تكن “روحية” فحسب، بل قد تكون بداية مرحلة جديدة يُراد فيها للطائفة السنية أن تتوجّه شرقاً، وأن تفتح باب العلاقة مع “الشرع الجديد”، على حساب الموازين اللبنانية القديمة.
أوساط سياسية بدأت بالحديث عن “صفقة” إقليمية جديدة، قد تعيد بعض ملفات لبنان إلى المعادلة السورية، ضمن إطار أوسع من التفاهمات التي تشمل ملفات العراق وسوريا واليمن.
السؤال الذي يفرض نفسه الآن: هل ستقف المملكة العربية السعودية متفرّجة أمام عودة النفوذ السوري، عبر أحمد الشرع لتعيد إحكام قبضتها على لبنان؟ وهل يمكن للمفتي دريان أن يقدم على خطوة من هذا النوع، من دون طلب أو “مباركة”؟
من الواضح أن الرياض لم تعد تولي الشأن اللبناني الأولوية القصوى، خاصة بعد إخفاقات متكررة في بناء مشروع سنّي متماسك، وفتور العلاقة مع بعض الحلفاء السابقين كتيار “المستقبل”. كما أن التحولات في السياسة السعودية الخارجية تميل حاليًا إلى “الواقعية” و”البراغماتية”.
لكن في المقابل، هناك من يقول إن أي هيمنة سورية جديدة على لبنان لن تمر دون أن تثير قلق الرياض، التي تعتبر لبنان ساحة استراتيجية متقدمة.
من هنا، قد تشهد المرحلة المقبلة إعادة انخراط سعودي، ولكن وفق شروط جديدة، وأدوات مختلفة.
أمام ما يحصل من تقلبات اقليمية، يبقى لبنان اليوم أمام لحظة مفصلية، فإما أن يستعيد اللبنانيون زمام المبادرة لتشكيل مشروع وطني جامع ينأى ببلادهم عن لعبة المحاور، أو يبقوا أسرى تلزيمات خارجية تتغير وجوهها وتتشابه في جوهرها.